أقسم لكم يا من ستقرءون قصتي أنني كنت أكثر براءةً مما تتصورون، وربما كنت أكثر براءةً من كثريين منكم، وقد تأكدت من براءتي بعد أن مت (أنا ميت الآن وفي إمكاني أن أعبر عن نفسي بغري خوف منكم). كنت براءة طفل صغري، ومع ذلك كنت — ولا زلت ً — أعتبر نفسي في براءة طفل صغري. وأنا أيضا كنت مثلكم حني كنت فوق الأرض، وأقيم ً بني كل مرحلة ومرحلة جدار ً ا سميكا. َحْمِلَق ُ فيه ملدة دقيقة كاملة، وأصبحت ً قادرا ُ وأستطيع أن أ َ على أن أحملق في وجه أبي ملدة دقيقة كاملة، وجه أبي كان كوجوه كل الآباء، ووجوه كل الآباء تبدو لي الآن كتلك الوجوه الكرتونية التي كنا نشتريها في يوم العيد، ويلبس كل منا الوجه الذي اشتراه ً بقرش، عيناه حني حملقت فيهما ً عرفت — على الفور — أنه هو الذي قتل أمي، كنت أتصور أنني سأستطيع أن أصفَ ها الآن بعد أن ارتفعت فوق الأرض، كان جسدها وجسدي شيئً ٍّ يكن ظن إن هذه املسافة املعدومة بيني وبني أمي لا تزال حتى الآن كما كانت وأنا طفل؛ والناس كالأشباح أو كامللائكة، وألتصق بها بقدر ما أستطيع، وجسمي كله يهتز بهذه الرغبة كالحمى. وأنها لم تكن رغبة في الابتعاد عن املوت، ولم أكن في تلك الحالة أدرك شيئًا، وصامتًا صمت الرحم من الداخل والعالم بكل ما فيه من بحر وسماء وبيوت وأشجار وقطار وقضبان تلاشت، ً ولم يكن بوسعي في تلك الحالة أن أدرك وجود أبي الذي كان راقدا إلى جوار أمي بجسده الضخم، ورغم أنني لم أكن أراه (بسبب تكوري الجنيني) فقد ملحت تلك النظرة التي كست عينيه ً بسرعة البرق، ورغم أنني لم أكن لأستطيع أن أرفع عيني في عينيه، ِ وعادت إلى عينيه نظرة الأب املحب، ككل هؤلاء استطاع أبي أن يخفي رغبته الحقيقية في أن يقبض بأصابعه الكبرية ً الضخمة على عنقي، والحقيقة أنني لم أكن قد ارتجفت بعد، فإذا بها قبل أن يحدث، كنت أندهش وأتساءل بيني وبني نفسي عن ذلك السر؛ وكانت دهشتي تزيد حني أسمع أبي يتهمها َ بأن نوم ُّ ها ثقيل. وكان أبي يتهمها أيض َ ا بأن سْمَعها ثقيل، وذات مرة من هذه املرات سمعته يقول لها إن قلبها بارد لا يحس، وهمست في أذنها بكلمات متقطعة مكسرة (ولم أكن أجيد الكلام بعد) وقلت لها: «انتي بتحسي أكتر من أبي يا أمي. ورآني وأنا بني ذراعيها؛ لكن أبي لم يكن يطمئنني أبدا، وسرَ 28 الجريمة العظمى َ لم أكن أعرف ملاذا لا أستطيع أن أجلس بجوار أبي بحيث لا تكون هناك مسافة بيننا. كانت حني تجلس إلى جواري ألتصق بها، ولكنه تلك الرغبة امللح ً ة العنيفة في أن تنعدم املسافة بيننا انعدام ً ا كاملا ً وأصبح أنا وهي جسد ً ا واحدا. كنت أخفيها كما أخفي مشاعري الحقيقية، ويطلب مني املعلم أن أقول وراءه كلمة: «أحب أبي مثل ِّ أمي»، لم يكن تكوين وجهه يصلح للابتسام. ولم أكن رأيت من قبل جملا ِ ا يبتسم، كنت أستطيع بقدرة عجيبة أن أخفي مشاعري الحقيقية، حتى وجدتني أصرخ كاملستغيث وأنا أبكي: أحب أبي مثل أمي! . ِب ُ ت على كتفي، ليس معلوما فحسب ولكنه محسوس عن يقني بكل أحاسيس الجسد وأعصاب النفس. ومع ذلك فليس هناك ما هو غري محتمل في حياة الإنسان قدر الشك، ً لكني كنت في ذلك الوقت طفلا صغريًا، ولم يكن في إمكاني أن أزيل عنه هذا الشك َ أو ذلك اليقني، كنت قد فعلت كل ما في وسعي لأحفظ وأتلو ٍ بصوت عال واجب املدرسة، وكنت قد فعلت كل ما في وسعي لأجعل صوتي وأنا أتلو الواجب كأنه صوتي الحقيقي. ولم يكن في إمكاني أن أفعل أكثر من ذلك، لم أكن أراه لأن رأسي كان مطرقًا وعيني كانتا في الأرض، ولم أكن لأجرؤ ً أبدا على أن أرفع رأسي وأنظر في عينيه، كنت أعرف أنني في اللحظة التي ستلتقي عيناه بعيني سيكتشف الحقيقة املفزعة، وكنت أعلم أنها ليست إلا غمضة عني وتنعدم املسافة بيننا، وضغطت بظهري على الحائط وبكل قوتي، وبعنف التشبث بالحياة. فلم أكن ً بعيد تعلمت من الأرقام إلا عشرة، لم يكن املعلم في املدرسة قد علَّمنا أكثر من هذا حتى ذلك الوقت، ولم تكن أية حركة من حركات أبي بسيطة. لكني أحسست َ ذراع ْي أمي حولي تضغط عليَّ َّ بكل قوتها وتحتويني بجسدها، ً وإلى هنا وأصبح أبي عاجزا عن الاحتفاظ بالوجه غري الحقيقي؛ ولم أعد خائفً ا كما كنت خائفً ا من قبل، وهكذا استمر بي ً الحال، وقفز فوقي كالنمر املفترس، لم أكن أرى وجهها لأني كنت أقف خلفها، كنت أظن أنها نائمة كعادتها حني َ تنام في الصيف على الأرض، وقبل أن تنفرج شفتي عن الكلمة تفتح عينيها وتصحو، بل قبل أن تفتح عينيها كنت أحس جسدها َّ يتحرك قبل أن تتحرك شفتي، وقبل أن أسمع أنا صوتي تكون هي قد سمعته. وانتقل أبي إلى بيت آخر وأخذني معه، بعد أن ارتفعت فوق الأرض، إن الجريمة الأولى في الحياة البشرية لم تكن أن قابيل قتل هابيل،