"بينما كانت حركة أحباب البيان والحرية تنظم صفوفها وتوسع قواعدها، ويحضرون في الخفاء عملية الاستفزاز التي تسمح بضربها. فلا ينبغي للحركة في نظر هؤلاء أن تشارك في الانتخابات البلدية التي جرت بفرنسا في موعدها، في حين تأجلت بالجزائر تجنبا لفوز القوى الشعبية بالذات. وفي أبريل 1945 اعترف عامل قسنطينة ليستراد كربونال، حاكم بلدية مختلطة سابق، للدكتور سعدان بأن اضطرابات ستحدث وستؤدي إلى حل حزب كبير، وكان أبو(1) من جهته يردد في نفس السياق بأن اضطرابات ستندلع، ومن شأنها أن تجعل الجنرال دوگول يتراجع مضطرا عن إصلاحاته بدءا بالأمر الصادر عنه في 7 مارس . 1944 وبعد أقل من أسبوعين من اعتراف عامل قسنطينة، ترى لماذا سطيف؟ كان من الضروري أن تنفجر تلك الاضطرابات بهذه المدينة بالذات، لأنها شهدت ميلاد بيان الشعب الجزائري ثم أحباب البيان والحرية. فقد وجدت السلطات العمومية في ذلك الذريعة المناسبة لضرب هذه الحركة في الرأس. لكن المشكلة أن الاضطرابات المحدودة المبرمجة حسب سيناريو معلوم لتبرير حل أحباب البيان والحرية، انفلتت لتتحول إلى انتفاضة عارمة. وهو يوم السوق الأسبوعي الذي يتوافد خلاله على مدينة سطيف ما بين 5 إلى 15 ألف فلاح وتاجر من مختلف المناطق المجاورة. عشية هذا اليوم سمحت دائرة سطيف بالتظاهر، بعد أن يكون بعض المسلمين (الجزائريين) أعربوا عن رغبتهم بمناسبة إعلان الهدنة، ويعتقد رئيس الدائرة أن صاحب الطلب مسؤول في حركة أحباب البيان والحرية. لكن لا أحد طلب منه بطاقة التعريف أو طلبا مكتوبا حسب القانون الجاري. وحتى رئيس البلدية لم يشعر بهذا المسعى الغريب. وعلى عكس ذلك تم إشعار عامل قسنطينة الذي وافق على الترخيص بالمظاهرة، لكن أمر في نفس الوقت بإطلاق النار على المتظاهرين في حالة رفع العلم الجزائري. وهناك ظرف مثقل على السلطات: قبل أسبوع نظم حزب الشعب الجزائري المحظور بمناسبة فاتح مايو مسيرات احتجاج، وشهدت سطيف مسيرة مماثلة سار فيها نحو 4 آلاف فلاح. مثل هذه التظاهرات كانت إنذارا جديا بأن الجو مشحون بالإعصار، غير أن المسؤولين على الأمن العام لم يولوا أدنى اعتبار لذلك. لقد تشكل الموكب انطلاقا من محطة القطار قرب المسجد الجديد ليتجه نحو المدينة. كانت الشرطة تحيط بالمسيرة التي تقدمت حوالي ألف متر رافعة العلم الجزائري، داهم محافظ شرطة الصف الأمامي وحاول افتكاك العلم من أحد المتظاهرين. متسببا في سقوط قتيل وعدد من الجرحى. بينما راحت الشرطة تطلق النار عليهم، مما أدى إلى سقوط العديد من القتلى والجرحى. وعند مغادرة المتسوقين راحوا ينشرون أنباء ما حدث بكثير من التهويل. مما ساعد على انتشار الانتفاضة عبر القرى والبوادي. كانت الاضطرابات دامية بعمالة قسنطينة خاصة، وقد سقط فيها من الأوربيين 102 مقابل عشرات الآلاف من الضحايا الجزائريين. فتحت أوامر الجنرال دوفال والعقيد بودريلا، داهم اللفيف الأجنبي والجنود السنغاليون والطابور المغربي قرانا ودواويرنا، وقد دفع الشباب من إطارات أحباب البيان والحرية ضريبة ثقيلة، بعد أن صب المستوطنون المنتظمون في عدد من الميلشيات جام حقدهم على سطيف والعين الكبيرة وخراطة ووادي المرسى وفالمة وعنابة، حيث أعدموا الآلاف من الشباب بعد أن أذاقوهم أبشع أشكال التعذيب. فقد عادت مطاردة العربي مثلما كانت في عهد أمثال روفيفو وسانتارنو. وأصبحت ميليشيات المستوطنين تنتحل حق المحاكمة والإعدام، وتم حل أحباب البيان والحرية، وأعلنت الأحكام العرفية في البلاد، وقصف الطراد دوفي- تروين دواوير بلديتي تاكينونت ووادي المرسى المختلطتين، وقامت الإدارة باعتقالات جماعية، وقيد مسؤولو ومناضلو أحباب البيان وحزب الشعب والنقابات وقدماء المحاربين إلى المحتشدات، وتم تطبيق عدالة عرفية بلاتحفظ، ونقلت جثث الفلاحين المعدومين إلى مقبرة قسنطينة وتركت هناك بدون دفن. وكتبت صحيفة ليكو دالجي أن الساعة ساعة الدركي بشمال إفريقيا، بينما راح المستوطنون يطالبون الحكومة بتأجيل النظر مؤقتا في أي حل لمشاكل الهياكل السياسية والإدارية والاجتماعية. وبمقر الولاية العامة- مشتلة أبناء الغلاة حيث لا يوجد سوى 8 موظفين جزائريين من مجموع 2000 موظف- تم توزيع منشور من قبل المتهربين من الحرب الأخيرة الذين أعرف جيدا عواطفهم، استعادوا خلاله شجاعتهم ليعلنوا أمام شعب أعزل بنبرة حربية: كفى! كفى! فالرأي العام الفرنسي يطالب بإعدام المحرضين وفي مقدمتهم فرحات عباس، وبعزل الوالي العام وتعيين حاكم مدني من فرنسيي الجزائر. وقد ذهبنا باسم أحباب البيان والحرية لتقديم التهاني بانتصار الحلفاء لممثل فرنسا. حتى أنني لم أعلم بحوادث عمالة قسنطينة إلا بعد أسبوعين، وقبل ذلك أبلغني قاضي التحقيق العسكري بأنني متهم بالمس بالسيادة الفرنسية(مرسوم رينيي) قبل أن تتلوها ثانية وهي المس بالسيادة الداخلية لفرنسا،