زعموا أيها الملك أن طائرًا طار وعلا إلى الجو، ثم انقضَّ على صخرة في وسط الماء، وإذا برمة إنسان جرَّها الماء حتى أسندها إلى الصخرة، فدَنَا منها طير الماء وتأمَّلَها فرآها رمة ابن آدم، وظهر له فيها ضرب السيف وطعن الرماح، فقال في نفسه: إن هذا المقتول كان شريرًا، ولم يزل طير الماء يكثر التعجُّب من تلك الرمة حتى رأى نسورًا وعقبانًا أحاطوا بتلك الجيفة من جميع جوانبها، فلما رأى ذلك طير الماء جزع جزعًا شديدًا وقال: لا صبر لي على الإقامة في هذا المكان. ثم طار منه يفتش على موضع يأويه إلى حين نفاد تلك الجيفة، وزوال سباع الطير عنها، فنزل عليها كئيبًا حزينًا على بُعده عن وطنه، وقال في نفسه: لم تزل الأحزان تتبعني، وحالوا بينها وبيني، فكيف أرجو أن أكون سالمًا في هذه الدنيا وأطمئن إليها؟ وقد قيل في المثل: الدنيا دارُ مَن لا دارَ له يغترُّ بها مَن لا عقلَ له، وإذا بذكر من السلاحف أقبل منحدرًا في الماء، ودنا من طير الماء وسلَّم عليه، ما الذي أبعدك عن موضعك؟ قال: حلول الأعداء فيه، وما أحسن قول بعض الشعراء : إِذَا حَلَّ الثَّقِيلُ بِأَرْضِ قَوْمٍ فَمَا لِلسَّاكِنِينَ سِوَى الرَّحِيل فأنا لا أزال بين يديك، ومما يسلِّي به العاقل نفسه الاستئناس في الغربة، والصبر على الرزية والكربة، وأكون لك خادمًا ومُعينًا. فلما سمع طير الماء مقالة السلحف قال له: لقد صدقتَ في قولك، وليس للعاقل إلا التسلِّي بالإخوان عن الهموم في جميع الأحوال، فإنهما خصلتان محمودتان يعينان على نوائب الدهر، قال له السلحف: إياك والجزع، وما زالا يتحدثان مع بعضهما إلى أن قال طير الماء للسلحف: أنا لم أزل أخشى نوائب الزمان، فلما سمع السلحف مقالة طير الماء، أقبل عليه وقبَّله بين عينيه، وقال له: لم تزل جماعة الطير تعرف في مشورتك الخير، فكيف تحمل الهم والضَّير؟ ولم يزل يُسكِّن روع طير الماء حتى اطمأن، ثم إن طير الماء طار إلى مكان الجيفة، فلما وصل إليه لم يرَ من سباع الطير شيئًا، فلما وصل إلى السلحف أخبره بما رأى، وقال له: إني أحِبُّ الرجوع إلى مكاني، فذهب معه إلى ذلك المكان فلم يجد أشياء مما يخافان منه، فصار طير الماء قرير العين، وأنشد هذين البيتين : ضَاقَتْ فَلَمَّا اسْتَمْكَنَتْ حَلَقَاتُهَا فرِجَتْ وَكُنْتُ أَظُنُّهَا لَا تُفْرَجُ فبينما طير الماء في أمن وسرور، قيل إنه كان يقول في تسبيحه: سبحان ربنا فيما قدَّر ودبَّر،