الاختلاف بين الناس - مثل الابتلاء - مقصد قدري لا مقصد تكليفي، فالبشر غير مكلفين بتحقيق الاختلاف فيما بينهم، إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ [هود : ۱۱۸-۱۱۹]. وقد ذهب المفسرون مذاهب شتى في تفسير هاتين الآيتين واحتاروا في الجمع بينهما واختلفوا في المقصود بقوله تعالى: ﴿وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ . وجامعا بين الآيتين جمعا منهجيا دقيقا ومقنعا، ومبينا بعض جوانب الحكمة من مقصد، وبما يلائم ويفي بغرضنا هنا من بيان الحقيقة هذا المقصد وتحديد العلاقة بينه وبين جوهر التربية فلذا؛ فقد وفى وأجاد، فمن الناس مهتد وكثير منهم فَاسِقُونَ ولو شاء لخلق العقول البشرية على إلهام متحد لا تعدوه (1)، إن خيرا فخير وإن شرا فشر، ولا كان الفساد مقتضيا عقاب الجحيم (۲)، ثم ربط بين ذلك وبين فكرة الارتقاء في مدارج الكمال، وهو أهمها وأعظمها ليتفاوت الناس في مدارج الارتقاء ويسموا إلى مراتب الزلفى فتتميز أفراد هذا النوع في كل أنحاء الحياة» (۳). لأن المراد منه ما يساوي والتقدير : ولو شاء ربك أن يجعل الناس أمة واحدة لجعلهم كذلك (1)، وبعد أن بين أن معنى كونها واحدة أن يكون البشر كلهم متفقين على اتباع دين الحق، كما يدل عليه السياق، فآل المعنى إلى لو شاء ربك لجعل الناس أهل ملة واحدة فكانوا أمة واحدة من حيث الدين الخالص (۲)، قال ابن عاشور: وفهم من شرط «لو» أن جعلهم أمة واحدة في الدين منتفية، فعلم أن الناس قد اختلفوا فيما مضى فلم يكونوا أمة واحدة . لأنه من مقتضى ما وربط ابن عاشور بين الآيتين بقوله : ولما أشعر الاختلاف بأنه اختلاف في الدين، وأن معناه العدول عن الحق إلى الباطل، عُقب عموم وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ) باستثناء من ثبتوا على الدين الحق ولم يخالفوه بقوله: ﴿إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ، أي : فعصمهم من الاختلاف (٤). ثم بين معنى الاختلاف في هذا السياق فقال: وفهم من هذا أن الاختلاف المذموم المحدر منه هو الاختلاف في أصول الدين، وهذه الآية تحذير شديد من ذلك الاختلاف (0). ثم دقق في دلالة التعقيب وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ بما يكشف عن معنى مقصد الاختلاف فقال: «فهو تأكيد بمضمون وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ، لأنه لما خلقهم على جبلة قاضية باختلاف الآراء والنزعات وكان مريدا المقتضى تلك الجبلة وعالما به - كما بيناه آنفا ، كان الاختلاف علة غائية لخلقهم، والعلة الغائية لا يلزمها القصر عليها بل يكفي أنها غاية الفعل، وقد تكون معها غايات كثيرة أخر . وتقديم المعمول على عامله في قوله: ﴿وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ليس للقصر بل للاهتمام بهذه العلة، وبهذا يندفع ما يوجب الحيرة في التفسير في الجمع بين الآيتين (1). العدول عن الحق إلى الباطل خلافا لمن يثبت على الحق - وأنه أمر محتوم وفقًا للجبلة التي خلق عليها الإنسان، باعتبار أن من يدرك مفهوم هذا المقصد والحكمة منه حق الإدراك، ويربأ بنفسه أن يكون مع الرعاع الذين يتبعون كل ناعق، ويتبعون السبل التي تحيد عن الحق، ليستحق بعمله هذا وسعيه أن يشمله الله في زمرة من استثناهم بقوله إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ الذين لا يختلفون في الحق مهما خالفهم فيه الناس؛ لأنهم يعون الحكمة من خلق الناس مختلفين . وهي من أعز صفات الكمال. ذلك أنه يدرك أن الخالق الذي يدعو إلى الثبات على الحق والدعوة إليه هو الذي ينهى عن الإكراه في الدين، كما قال تعالى: لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾ [البقرة: ٢٥٦]، كما قال تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الممتحنة: ٨]. مثل الاختلاف في الآراء والأفكار القائم على الاجتهاد المعتبر المستند إلى أدلة وبراهين محتملة، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر». التكاملي بين الناس، کالاختلاف قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً . [النساء : ١]، ﴾ [الحجرات: ١٣]. وهذا يتطلب تقدير اختلاف التنوع التكاملي والسعي لاستثماره استثمارًا يحقق الارتقاء في معارج الكمال، وهذا هو جوهر التربية الأصيل.