أخشى ألا نتمكن من تنفيذ مشروعك على الوجه الأكمل عوضاً عن الإجابة المباشرة، هتف الشيخ الذي كان قد صعد إلى سيارته اللاندروفر. انطلقت السيارة محدثة غيمة من الغبار ووجهتها الساحل. كان المبنى المحصن بأربعة أبراج صغيرة في زواياه وثلاثة أبراج مربعة الشكل مسننة، ونحو مائة بيت مبنية بالآجُرّ توحي بأن المكان قرية صغيرة لا عاصمة إمارة. وغير بعيد تلوح بضعة سنابيك هائمة على وجه البحر، وصيادون ينصبون شباكهم على الشاطئ الرملي. عندما أصبح في موازاة زايد توقف وانحنى واضعاً يده على قلبه. - كيف حالك يا مستر غوردون؟ لكن ما من مشكلة إلا ولها حلّ لأن الحل بأيدينا. من الواضح أن الجواب لم يُرضه. - اسمح لي بالانصراف أمامي طريق طويل للوصول إلى دبي. سوف نلتقي مجدداً بالتأكيد. شيعه زايد بالنظر للحظات قبل أن يدخل إلى الغرفة التي كان المندوب الإنجليزي قد غادرها. أول ما يصدم في مظهره شحوب ملامحه هو رجل نحيل قسماته دقيقة ومنتظمة تزينها لحية سوداء مُشذِّبة وعينان واسعتان داكنتان حالما رأى الزائر ارتسمت على شفتيه ابتسامة عريضة. قبل أن يأخذه بين ذراعيه. امتثل زايد فيما جلس شخبوط مقابله. ينبغي أن أذهب لزيارتك في العين ولا سيما أنني هناك أشعر بأنني أفضل حالاً. - غني عن القول طبعاً أنك تكون هناك في منزلك. منذ بعض الوقت ما عدت أدري ما بي، وعظامي تؤلمني بعد ثلاثة أشهر أكمل الخامسة والأربعين من العمر. كان الخادم قد عاد حاملاً فنجانين صغيرين ودلة . - هزاع متوعك قليلاً، وولدي خليفة بلغ عامه الثاني. - رأيت للتو بيري غوردون، وفي ما يخص زايد كان همه الوحيد تجنّب سفك الدماء مهما كان الثمن. في رأيه أنه لا يمكن لعربي، ولا ينبغي له أن يسفك دم عربي آخر. رفع شخبوط الفنجان إلى شفتيه. وتابع الرجلان حوارهما المفعم دماثةً إلى أن قرّر زايد أن يفصح عن سبب زيارته. اسمح لي أن أكلمك بصراحة. نهض الشيخ مسح براحته تجعيداً خفياً في كندورته. لا يغرب عنك أن العين منطقة زراعية على مدار السنة، وترتبط كثيراً بالمياه المنحدرة من جبل حفيت. هذه المياه بحاجة إلى قنوات تجري فيها. كان يدرك أهمية هذه القنوات منذ بدء الأزمة المالية التي حاقت بنا - أتكلم طبعاً عن تدهور تجارة اللؤلؤ - لم نتمكن لعدم توافر الإمكانات من صيانة القنوات الموجودة. وهذا ما أدى إلى جفاف بعض الأفلاج وانسداد غيرها بفعل الرواسب. - 115ألف روبية من العقد المبرم مع شركة تطوير بترول الساحل. ألا ترى أن بإمكاننا الإفادة من هذه العائدات؟ - ما هي الأسباب؟ -أخبرك في ما بعد. لنعد إلى مآخذك؟ ألم أبن خط أنابيب لنقل الماء من العين إلى هنا؟ وأعتزم إنشاء وحدتين لتحلية المياه. أعلم ذلك. وينبغي أن نستمر في شق الطرق وبناء المدارس والمستشفيات واستيراد الأجهزة والاستعانة بمستشارين ماليين والتعامل مع البنوك. أما بشأن البنوك فقد قبلت مؤخراً بالتعامل معها وفتحت حساباً مصرفياً. ارتسمت على شفتيه ابتسامة وأضاف: - لكن ذلك لا يمنع من اختباري لهم في أي وقت للتأكد من جاهزيتهم لإمدادي بأي مبلغ في أي وقت. هذه المرة وقف شخبوط. حدق في عيني أخيه ثم قال بصوت بالغ التأثر: أنا قلق يا زايد قلق من أن تفقد بلادنا أصالتها. «تقدم». ما هو التقدم؟ تطوير الفرد؟ أو تطوير المنافع المادية؟ لكنني أقول إن ما يسمونه التقدّم ما هو إلا استبدال مشكلة بأخرى. لماذا هذا الإصرار على تغيير ما نحن فيه؟ نعم، أعلم أنك سترد علي قائلاً إن الآخرين قد بنوا مستشفيات ومدارس. -نعم أفهمك. أنا أرفض ذلك. أخذ نفساً قصيراً. - تريد أن تعلم ما هو التقدم في نظري؟ إنه خطر يهدد الأصالة والهوية. خيم صمت ثقيل قبل أن يستعيد زايد دوره في الكلام. - ما رأي هزاع وخالد في ذلك؟ -العشاء جاهز. كرر شخبوط السؤال. ما قدر الله لنا من حياة. لا ريب في أن شخبوط تأثر بهذه المحادثة لأنه بعد أسبوعين على لقائنا أمدني بالوسائل اللازمة لبدء الأشغال. على مدى الأزمان كان الوصول إلى الماء امتيازاً في العين. كان موقوفاً على عائلات الوجهاء، هذا ما أعتبره إجحافاً. ولقد عزمت على إنهاء هذا الوضع. خصوصاً ونحن لا نملك أية معدات حديثة. استغرق التنفيذ وقتاً طويلاً وكان العمل شاقاً وعندما انتهى تبين أن المنسوب لن يكون كافياً لتلبية احتياجات جميع السكان. - هذا محزن، صديق العمر، لاحظتك أمس. انعقد لساني عندما رأيتك ترسم بعصاً خطوطاً على الرمل وسمعتك تتكلم وحدك. كنت تقول: «هنا ستقوم مدرسة ذات يوم، وهناك مستشفى وهنالك مدرسة أخرى» ينقصنا الماء لكن دماغك غارق. - ماذا تريد ؟ المتفائل يحلم لينسى والمتشائم ينسى أن يحلم. وهناك مستشفى. لدي الحلّ. بما أننا لا نملك الوسائل الفعالة فسوف نستخدم الوسائل التي وهبتنا إياها الطبيعة. سوف نوجه نداء إلى جميع الرجال ذوي النيات الحسنة ونذهب للبحث عن الماء حيث ينتظرنا في الطبقات الجوفية. هكذا نكون شبكة. يا زايد. - لا، - كيف؟ ولا مواشيهم. ثم إن الرسوم الصغيرة التي نجبيها عن المشروع سوف تستثمر فوراً لخلق أفلاج جديدة، وهذه المياه المستخرجة من أعماق الأرض تصبح ملكاً مشتركاً لجميع السكان. تنهد صديقي، فلماذا التراجع ؟ وعرضت عليهم مشروعي. العمل مجاناً؟ أفلا يستحق كل جهد أجراً؟ - هل يُدفع لكم أجر لكي تتنفسوا؟ الماء والهواء ملك لجميع الكائنات. لكن لا أحد اندفع في مثل هذا المشروع من الصعب جداً تحقيقه ليس لدينا المؤهلات اللازمة لإنجاحه. هيا! أين ذهبت نخوتكم البدوية؟ أين شجاعتكم؟ أين ثباتكم؟ قبلوا التحدي. عهدت إلى أهالي العين بمهمة حفر البئر الأم وكلفت عدداً من الأشخاص بشق الصاروج. وعلى فترات منتظمة. ويا للأسف! سارعت العائلات الأكثر غنى إلى شراء كميات كبيرة من الماء لكي تعود فتبيعها بسعر أكبر مرتين أو ثلاث مرات إلى العائلات الأكثر فقراً. الغضب ليس من شيمي. ولكن كيف لي أن أتمالك نفسي أمام ما كنت أعتبره عملاً من أعمال القرصنة؟ على مدى أيام طويلة جهدت في محاولة إعادة المسؤولين عن هذا الانحراف إلى رشدهم بلا جدوى ما يفعلونه هو في نظرهم تجارة. جمعت الوجهاء وأبلغتهم: وأضفت: - سوف تكتفون بأخذ الماء من الأفلاج القديمة، آجلاً أو عاجلاً، فوضعوا حداً لتجارتهم غير المشروعة.