مقال جدلي حول التجريب في البيولوجيا. السؤال: هل يمكن تطبيق المنهج التجريبي على المادة الحية ؟ يعود الفضل الكبير في النجاح الذي حققه الباحثون في مجال المادة الجامدة و ما وصلوا إليه من دقة و موضوعية في أبحاثهم إلى إستخدامهم للمنهج التجريبي وقد أغرى هذا التطور الخلاق التي عرفته العلوم التجريبية الباحثين في ميدان المادة الحية " البيولوجيا " إلى تطبيق هذا المنهج على أبحاثهم بغية اللحاق بركب العلوم التجريبية و بلوغ مراتبها و تحقيق نجاح مماثل لنجاحها . فمنهم من يعتبر " أن المادة الحية لها خصائص جد معقدة تحول دون تطبيق المنهج التجريبي عليها " و منهم من إعتبر أن " خصائص المادة الحية لا تشكل عائقا أمام دراستها دراسة علمية تجريبية ". بناءا على هذا الاختلاف و الجدال الواقع بينهم فإن الإشكال الذي يمكننا طرحه هو : هل الدراسة العلمية في المادة الحية أمر متعذر ومستحيل ؟ أم يمكن تجاوز هذه العوائق و إخضاع الظاهرة الحية للتجريب ؟ عرض منطق الأطروحة: " لا يمكن تطبيق المنهج التجريبي على المادة الحية " بحيث أن المادة الحية ممثلة في الإنسان والحيوان والنبات تتميز بخصائص معقدة تختلف كثيرا عن المادة الجامدة ، إن المادة الحية لا تقبل الدراسة العلمية التجريبية لوجود جملة من العوائق تتمثل في طبيعة الموضوع المدروس فالبيولوجيا تدرس الكائن الحي " الإنسان ، إذ كل جزء فيها تابع للكل فأجزاء الكائن الحي مرتبطة ببعضها وتؤلف وحدة غير قابلة للانقسام و كل محاولة لإستئصال العضو من العضوية يؤدي إلى موته و بالتالي تتغير طبيعته ، عكس المادة الجامدة التي لا تشكل أية وحدة متماسكة، إذ يمكن تفكيكها إلى أجزاء متناهية دون أن تفقد هذه المادة طبيعتها، يقول كوفيي:"إن سائر أجسام الجسم مرتبطة فيما بينها، كما يقوم الكائن الحي بجملة من الوظائف الحيوية التي لا نجدها في عالم الجمادات كالتغذية ، التنفس و التكاثر فالكائن الحي يولد و ينمو و يهرم و يموت و يتحرك و يتغير عكس الجمادات التي تتمثز بالثبات و السكون مما يجعل إمكانية التنبؤ به مستحيلة يقول بيشا " إن الحياة هي جملة الوظائف التي تقاوم الموت ". و كذا صعوبة التجريب و التعميم فطبيعة الكائن الحي تجعل إمكانية التجريب عليه أمرا مستعصيا لأن المادة الحية تشكل كلا متماسكا يصعب عزل أحد أعضاءه وإدخاله إلى المخبر لأنه يؤدي إلى هلاكه يقول في هذا كوفيي " إن محاولة بتر أي عضو من الجسم هي موت الجسم " كما أن إدخال الكائن الحي إلى المخبر يؤدي إلى إضطرابه و بالتالي يحدث تشويشا في التجربة و تكون نتائجها غير دقيقة فالكائن الحي لا يكون في حالته الطبيعية إلا في محيطه الاصلي يقول في هذا لوكانت دولوي:"لا يستطيع العالم الذي حلّل المادة الحية أن يركبها بجميع عناصرها المشوشة التي قسمتها عقاقير الكيمياء" كما أن الغاية من تطبيق المنهج التجريبي هو تعميم النتيجة المتوصل إليها لتشمل كل أفراد الجنس الواحد و هذا أمر غير ممكن في مجال المادة الحية لأن كل كائن حي فريد من نوعه و له مميزات خاصة به ، إذ كل كائن ينطوي على خصوصيات ينفرد بها عن غيره، وقد أثبتت التجربة التي قام بها البيولوجي أغاسي على الصدفات البحرية إستحالة التصنيف في المادة الحية حيث من مجموع27000 نسخة من الصدف الواحد لم يقف على صدفين متماثلين وفي هذا الشأن يقول لايبينتز ، كما نجد بعض الأديان تحرم عملية تشريح الجثث لأن الإنسان ذات مقدسة وله كرامة لا يعبث بها تحت أي مبرر، ونجد بعض الاتجاهات السياسية والأخلاقية تدعو إلى توقيف التجارب على بعض الحيوانات رفقا بها ودفاعا عنها، و منه نستنتج أنه لا يمكن تطبيق المنهج التجريبي على المادة الحية لكن العلماء لم يقفو مكتوفي الأيدي ، عرض نقيض الأطروحة: " يمكن تطبيق المنهج التجريبي على المادة الحية " إن الدراسة العلمية في البيولوجيا أمر ممكن حيث تكمن العلماء من تجاوز كل العوائق و نجحوا استخدام المنهج التجريبي في المادة الحية ويتجلى نجاح لذلك من خلال التقدم و التالق المستمر في علم البيولوجيا وقد تبنى هذا الموقف كل من كلود برنار ، - إن المادة الحية لا تختلف عن المادة الجامدة فالجسم الحي مثل الجسم الجامد، لأن كلاهما يتكون من نفس العناصر الكيميائية حيث أننا نجد في تحليل الجسم الحي الأوكسجين، الحديد و الأملاح المعدنية و غيرها من المواد الكيميائية يقول في هذا الشأن هيزنبارغ :"إن التفاعلات الموجودة في الطبيعة ما هي إلا تلك التفاعلات التي تحدث على مستوى الجسم. والتكنولوجي على مستوى وسائل الملاحظة و التجربة (كجهاز الراديو، إلخ)و كذا تطور الكيمياء الحيوية مكّن العلماء من إجراء عدة تجارب حيث أصبح من الممكن التجريب على بعض الأعضاء دون إبطال وظائفها ، وكذا تركيب الأعضاء الاصطناعية، ولعل الاستنساخ يعبر عن أقصى ما بلغه الإنسان في نجاحه التجريبي في المادة الحية وتبعا لذلك يصرح البروفيسور كنيدي من مجموعة الهندسة البيولوجية الأمريكية : "أنه خلال عام 1984 أصبحت عمليات استبدال الأنسجة، إلى جانب النجاح الذي حققه العلماء في علم الوراثة الذي مكن من تصحيح العديد من الأخطاء الوراثيّة و التحكم في الكائن الحي و تركيبته و يعود الفضل الكبير في تطور البيولوجيا إلى كلود برنار الذي إجتهد من أجل إخراج العلوم البيولوجية من أزمتها الى مجال الإزدهار والتقدم معتبرا ان المادة الحية يمكن دراستها تجريبيا شرط الحفاظ على خصوصيتها ، إذ يقول كلود بارنار: :" على البيولوجيا أن تعتمد على منهج العلوم الفيزيائية مع الاحتفاظ بشروط المادة الحية و قوانينها"، وقد أثبت أن المادة الحية تخضع لمبدأ الحتمية والإطراد وكل شروط و قوانين المنهج التجريبي و ذلك من خلال تجربته الشهيرة على الأرانب، حيث لاحظ وجود تغيّرعلى بول الأرانب ثم إفترض سبب هذا التغيّر و قام بعدها بتطبيق التجربة عليه وبعد تكرار التجربة عدة مرّات و على عدة حيوانات و صل إلى قانون عام هو "جميع الحيوانات آكلة العشب تخضع لحتمية أنه : إذا أخضعت للتجويع فإنها تتغذى من البروتين المدخر في جسمها". يقول كلود برنارد "يمكننا في ظواهر الأجسام الحية على غرار ما يمكننل في ظواهر الأجسام الجامدة من معرفة الشروط التي تدبر أمر الظواهر " و منه نستنتج إذن أن تطبيق المنهج التجريبي في المادة الحية ممكن. كما أنه لا زالت لحد السعة قضايا مستعصية على العلماء في دراستهم للمادة الحية . يمكن التسليم بوجود العوائق التي منعت العلماء من إدراك واستخلاص كل القوانين العلمية في دراستهم للمادة الحية، وبعد التحليل نستنتج ان المنهج التجريبي قد برهن انه المقياس المثالي لكل بحث يريد ان يكون علما موضوعيا ، كلود برنار:'' إن التجريب هو الوسيلة الوحيدة التي نملكها لنتطلع على طبيعة الأشياء التي هي خارجة عنا''.