ولا قوالب ثابتة يخاطب به الجميع؛ لأن "الإنسان لا يستخدم اللغة فحسب للتعبير عن شيء، فتكون لغة الاستعمال المشحونة بالانفعال في نزاع مستمر مع اللغة المنطقية، لأن "اللغة مرآة ينعكس فيها ما يسير عليه الناطقون بها في شؤونهم الاجتماعية العامة، كل ذلك وما إليه يصبغ اللغة بصبغة خاصة في جميع مظاهرها: في الأصوات، إذ تُعدُّ اللغة - في المخبر اللساني - نظاما له عناصره الأساس المكونة له بصورة علمية؛ وهو ما يعرف عند دي سوسير (De. Saussure) بالمدلول، فهو يرى أن النظام اللغوي متصور أساسا بصفته نظاما من العلامات، والعلامة اللغوية محددة فيه؛ لكونها وحدة طبيعية ذات وجهين لا ينفصلان، هو الصورة المفهومية المتصورة. يحمل كل دال في النظرية اللغوية بعدا دلاليا معينا يسعى المتكلم (الباث) إلى نقله - نطقا أو كتابة - إلى المستمع (المتلقي)، ويُدْعَمُ هذا النقل بالأداء اللغوي وغير اللغوي؛ وما يدور في الذهن من دلالة. ونظامها، فشرط "البلاغة والفصاحة حسن الموقع من نفوس الجمهور" ؛ فالتحدث بأسلوب لا يتناسب والمستوى الثقافي أو الاجتماعي للمستقبل من أسباب فشل الرسالة؛ لأن كلام الإنسان مرهون بالجماعة التي يخاطبها، وعدم الدقة، لهذا يجب مراعاة جملة الظروف الحافة بالنص؛ لأن الخطاب يبسط ظلاله الدلالية على النسق اللغوي الذي يتشكل وفق الذات المتلقية، جوهر الكلام حالة نفسية، أو هو ظل لهذا الكلام النفسي، لهذا كانت العرب في حديثها تتخير في كلامها الألفاظ، وتأتي بتعبير دون آخر؛ مراعاة لأحوال المخاطب النفسية، أو اختلاف الترتيب، فهو يأتي نتيجة لترتيب معانيها في العقل، فلا تُنْظَمُ الألفاظ في جملة من حيث هي ألفاظ وبمعزل عن دلالاتها، فعملية الحديث يتنازعها قطبان مهمان، هما: - المعنى الْمُرَاد التحدث عنه. - اللفظ الْمُعَبِّر عن هذا المعنى. إن واضع اللُّغة كان مدركا أن النظم عملية فكرية، وإن كل حدث كلامي - على قول فندريس (Vendryes) - يحمل أثرا انفعاليا، فالحدث الكلامي تعبير خاص ينتج انفعالا معينا، لذا كان واضع اللُّغة يرى أن عملية الحديث يتنازعها قطبان مهمان، أولا: ترتيب المعاني في النفس. إن العبرة في قدرة المتكلم في إيصال معناه، باختيار الألفاظ التي تحمل هذه المعاني، فينتقي المتكلم اللفظة الموصلة مراده، لزم ذلك انتقاء لفظة مناسبة، فما ننطقه هو تصوير ما في النفس من معنى، مراعاة للجوانب النفسية، كانت - أيضا - تُغَيِّرُ ترتيب الكلمات؛ أو نفس المخاطب، فربطوا الكلام بمقام استعماله، ومراعاة مقتضى حاله " كأنَّهم يقدمون الذي بيانُه أهمُّ لهم، يقول ابن خلدون (ت 808 هـ): "إن كلامهم واسع، ألا ترى أن قولهم: (زيد جاءني) مغاير لقولهم: (جاءني زيد) من قبل أن المتقدم منها هو الأهم عند المتكلم، أفاد أن اهتمامه بالمجيء قبل الشخص المسند إليه، و(إن زيدا قائم)، متغايرة كلها في الدلالة، إن الواقف على النص القرآني يدرك أنه معجزة بيانية تحدى به الله العرب، فكانت المعجزة من جنس ما اشتهروا به، ودقة تركيب عباراته - وإن حسبها مكررة - بتقديم عنصر في موضع، أو في موضع الفقر الـمـُدْقِع، والعجز الظاهر، وكذلك ذكر المطر؛ لأنك لا تجد القرآن يلفظ به إلا في موضع الانتقام، والعامة - وأكثر الخاصة - لا يفصلون بين ذكر المطر، وذكر الغيث" . في خطوة يزيد من قيمتها أن لفظا مفردا هو الذي يرسم الصورة، وتارة بالجرس والظل جميعا" . أدركت العرب حين سمعت هذا النص الخالد المعجز أنه يعلو ولا يعلى عليه، فخروا لفصاحة ألفاظه معظمين، وببلاغة نظمه معترفين، حيث جاءت ألفاظ القرآن الكريم "مبنية على وفرة الإفادة وتعدد الدلالة، ولها دلالتها البلاغية التي يشاركها في مجملها كلام البلغاء، ولا يصل شيء من كلامهم إلى مبلغ بلاغتها" ، فهو ينقل المعاني والحالات النفسية في صورة شاخصة، يجد صدى له في نفس المتلقي، طالما أن الوظيفة التبليغية للخطاب لا تقف عند حدود الدلالة المعنوية للفظة والعبارة، بل تتجاوزها إلى عنصري الإيقاع والظلال في لغة الخطاب لذا يصدر كلُّ متكلم في كلامه عن علم خاص به، ويختلف استقبال الكلمة من شخص إلى آخر؛ ويتجلى هذا البعد النفسي واضحا في دلالة الكلمة المركزية أو المضمون المنطقي، ودلالتها الهامشية أو المضمون النفسي، "لكل كلمة من الكلمات مضون منطقي، ومضمون أو ارتباط نفسي، فالمضمون المنطقي هو المعنى الذي ينص عليه القاموس في الأغلب، يكون الاشتراك في فهمه واحدا أو شديد التقارب، ولكن المضمون أو الارتباط النفسي يختلف من متكلم لمتكلم اختلافا كبيرا، ولا يمنع هذا من اشتراك جمهور المتكلمين باللغة في طائفة كبيرة من إيحاءاته ومما يرتبط به من ظلال المعاني" . وتقوم عليه؛ أدبية، فلسفية فهذا شأن مسائل المعنى، لأن طبيعة المعنى وتحصيله يتداخل فيه كل ذلك، لقد أدرك أبو عثمان الجاحظ (ت 255 هـ) أن اللغة ظاهرة اجتماعية، وأنها شديدة الارتباط بثقافة الشعب الذي يتكلمها؛ لذا يتباين التعبير بتباين المقام. إن فكرة المقام هذه هي الأساس الذي ينبني عليه شق اللغة الاجتماعي، وهو الوجه الذي تتمثل فيه الأحداث والظروف والعلاقات التي تسود ساعة أداء المقال، فكان من رأي الجاحظ - والبلاغيين بعده - أن لكل مقام مقالا، وأن معنى الكلمة هو استعمالها في اللغة، والكلام فردي . أدبية، فلسفية فهذا شأن مسائل المعنى، فلا يمكن أن تحصر دراسة المعنى في مستوى واحد، ويرى رومان جاكبسون (R. Jakobson) أنه "من الصعب على اللغوي في العصر الحديث أن يقتصر على موضوع دراسته التقليدي دون الاهتمام بالمجالات المشتركة بين اللغة وغيرها من العلوم الإنسانية، وحتى العلمية كالفيزياء، والفيزيولوجيا" ؛ والهيئة، والنجامة، إذ "لم يلجأ أحد من العلماء إلى القرآن الكريم في مسألة إلا وجد لها فيه أصلا " . قال السيوطي (ت 911 هـ): "وأنا أقول: قد اشتمل كتاب الله العزيز على كل شيء أما أنواع العلوم فليس منها باب ولا مسألة هي أصل إلا وفي القرآن ما يدل عليها" . إن الذي يهمنا هنا أساليب تربية القرآن الكريم،