الدور الثاني: الترجمة في عهد المنصور والرشيد اقترنت الترجمة خلال هذا الدور بشخصي الخليفتين العباسيين أبو جعفر المنصور وهارون الرشيد. وترجم فيه الكثير من الكتب، نقلها كتاب ومترجمون مستقلون، أكثرهم من المسيحيين واليهود، وبعض الذين اعتنقوا الإسلام من أهل الوثنية، وأصحاب الديانات الأخرى. ففي عهد المنصور (136) - 158هـ / 753 (774 ف) الذي كان خصباً في الترجمة والإنتاج الأدبي - نقلت عدة مقالات عن سائر الكتب العجمية، في النجوم والحساب والطب والفلسفة، وغير ذلك ونظر فيها الناس، وكان أبو جعفر قد نظر في العلم وروى الحديث، وكثرت علوم الناس ورواياتهم في أيامه، ويعتبر الأديب والكاتب والمترجم عبد الله بن المقفع من أشهر النقلة عن الفارسية في هذا الدور، فهو أول من ترجم من اللغة البهلوية إلى اللغة العربية. قام بترجمة الكتب المنطقية الثلاث لأرسطو طاليس، على أن أشهر أثر لأبن المقفع هو ترجمة كليلة ودمنة" أو أساطير وخرافات بيدبا عن البهلوية وترجمة أبن المقفع إلى العربية تعتبر بشكل عام مثالاً يُحتذى به في النثر العربي، وأسلوبه يُعد مثال الأساليب العربية المنتقاة. ومن النقلة في هذا الدور أبو يحيى البطريق وأبنه يحيى، ومن الكتب التي نقلها في الطب كتب ابقراط وجالينوس والمقالات الأربعة في التنجيم البطليموس، كما اشتهر الطبيب النسطوري جورجيس بن بختيشوع، الذي كان المنصور قد استقدمه إلى بغداد، فساهم في نقل الكتب الطبية إلى اللسان العربي، وفي تأسيس مدرسة طبية في بغداد. ومن النقلة أيضاً الحجاج بن يوسف بن مطر الذي نقل أصول الهندسة الاقليدس. وكان المنصور قد بادر إلى إحياء علم الهيئة المحض (الفلك) مستقياً من موارد الهند، حيث أمر بترجمة مختصر مقالة هندية في الفلك نقلها إبراهيم الفزاري، واستخرج منها كتاب عرفه العرب باسم كتاب السند هند، واتخذوه أصلاً في حساب حركات الكواكب، وما يتعلق به من الأعمال، واشتهر هذا الكتاب عندهم حتى أنهم لم يعملوا إلا به إلى أيام المأمون، فكان هذا النقل . بداية عهد جديد في دراسة الفلك عند العرب، كما ترجمت في عهده مقاله هندية في الرياضيات كان لها أثر كبير في إدخال الأرقام الهندية، واتخاذها أساساً للعدد العربي، وخلاصة القول إن المنصور كان أول من ازدهرت في عهده حركة الترجمة، مما ترتب عليه إيجاد نهضة علمية ثقافية زاهرة كنتيجة لما تمت ترجمته من مؤلفات في شتى الميادين، ومن عديد اللغات إلى اللغة العربية. أما عهد الرشيد (170-193هـ / 786-808) فيشكل مرحلة إحياء وتطوير لحركة الترجمة بعد الركود الذي أصابها في الفترة الفاصلة بينه وبين عهد المنصور، وكان للرعاية التي أولاها . الرشيد للترجمة وتشجيعه المادي لها من الأسباب التي حدث بها أن تبلغ مستوى من التطور الكمي والنوعي لم تصل إليه من قبل، فقد كان الرشيد يولي العلماء الذي يدرسون كتب العلوم اليونانية ويترجمونها مساعدات مجزية، وقد أنفذ الرسل إلى إمبراطورية الروم ليشتروا المخطوطات اليونانية، وهي سياسة سخية جذبت قدراً كبيراً من العلوم المهمة إلى عاصمته، بل لعله هو الذي بدأ تلك الحملات العسكرية ذات الهدف العلمي بقصد جلب نفائس المخطوطات اليونانية إلى بغداد لتعريبها، ذلك أن الرشيد كان يقوم بنفسه بغزو بلاد الروم كل سنة، وكان يطلق على هذه الغزوات اسم الصوائف، وإذا تأملنا الباعث على هذه الغزوات الصيفية اتضح لنا أنها كانت غزوات علمية بمعنى أدق، لأن الرشيد وإن كان يقصد منها القضاء على قوة الروم وإخضاع شوكتهم، كان يهتم إلى جانب ذلك كل الاهتمام بالحصول على مزيد من الكتب والمخطوطات في مختلف أنواع العلوم، وأما طريقة حصوله على تلك الكتب فكان يتم بأن يتجه بغزواته إلى المدن المشهورة بأنها معاقل الثقافة اليونانية في آسيا الصغرى كعمورية وأنقرة وغيرهما، وكانت خزائن هذه المدن مليئة بالمخطوطات النادرة والكتب النفيسة التي كان سكان تلك المدن قد جهلوا قيمتها ولم يعودوا يعرفون من أمرها إلا أنها مخلفات قديمة، وكان الرشيد يحرز النصر دائماً في هذه الصوائف ويجعل من بين شروط الصلح الحصول على الكتب التي كان يريدها، ولم يكن الرومان يبدون كبير معارضة للرشيد في الحصول على هذه الكتب، وقد عهد الرشيد بتعريب هذه الكتب إلى يوحنا بن ماسويه، وكان شيخ النقلة في عصره، فوضعه أميناً على الترجمة. والحق هذا بكرم مماثل من جانب الأفراد الذين أنفقوا بسخاء على المخطوطات والمترجمين، ومن الذين عنوا بالترجمة وكان تشجيعهم لها أحد الأسباب الرئيسية لازدهار النهضة العلمية في عهد الرشيد - البرامكة - الذين وقفوا على نقل الذخائر النفسية إلى العربية من الرومية واليونانية والفارسية والهندية وحتى الصينية، وكان مما عنوا به إعادة ترجمة بعض الكتب اليونانية التي ترجمت قبل عصرهم، بحيث تكون أكثر دقة وإتقاناً، ويعتبر الرشيد من أشهر الخلفاء العباسيين وأكثرهم ذكراً حتى في المصادر الأجنبية، ويرد اسمه كممثل لأبرز عصر مشرق للخلافة في الشرق، وكناصر عظيم للأدب العربي. ..