أعني أنك تستطيع أن تفهم الظواهر على أفضل نحوٍ إذا استطعتَ أن تُنظِّمها في نسق تكون فيه كلٌّ منها مؤدية إلى الأخرى بطريقة آلية خالصة، بل إنَّ الكون كله كان في نظر فلاسفة العصر الحديث آلة ضخمة تسير في عملها بانتظام الساعة الدقيقة، بمعنى أن العالم قد صُنِعَ مُتقَنًا منذ البداية، ويظلُّ يسير في طريقه بعد ذلك بنفس الدقة والانتظام اللذَين صُنِعَ بهما. ومن هنا كانت حَملتهم على كل أشكال التفكير الغيبي والميتافيزيقي، ودعوتهم إلى فهم كل الظواهر بنَفسِ المنهج الذي ثبت نجاحه في العلم. وأنها هي التي ينبغي أن تحل محلَّ كل ألوان التفكير الأسطوري واللاهوتي والميتافيزيقي التي سادت في العصور الغابرة. وأن هذا يَسري على مجال الكائنات الحية مثلما يسري على الأجسام الجامدة. على أن هناك أناسًا يُنادون بمذهب يُطلِقون عليه اسم النزعة الحيوية، فإنهم يَصفِونهم بأنهم ماديون … وتلك كلها أفكار باطلة …»١ وصل إلى حدِّ الاعتقاد بأن العلم الدقيق هو الشكل الوحيد الذي يَنبغي للإنسان أن يَعترف به من بين سائر أشكال المعرفة، وبأنَّ الحقيقة في جميع مجالاتها — يستوي في ذلك أعماق الإنسان الباطنة وأطراف الكون الخارجية — لا تَتكشَّف إلا عن طريق منهج تجريبي، فإنها كانت تدعو إلى قيام هذه الأنواع كلها على أُسُس تجريبية، وظهرت عوامل مُتعدِّدة أدَّت إلى تزعزع هذا الاعتقاد بأن المعرفة التجريبية — المرتكزة على وقائع يُمكن ملاحظتها وحسابها بدقة كاملة — هي النمط النموذجي لكل أنواع المعرفة الأخرى، وتبيَّن أن المادة تتبدَّد على شكل طاقة، ويُمكن القول إنَّ الصورة الجديدة للعالم — كما تتَّضح من خلال الكشوف العلمية الحاسِمة في فترة الانتقال من القرن التاسع عشر إلى القرن العشرين — أصبحَت بعيدة كل البُعد عن ذلك العالم الذي هو أشبه بآلة ضخمة تتحرَّك كل أجزائها وفقًا لقوانين ميكانيكية بحيث يُمكِن التنبؤ بمسارها وتغيُّراتها بدقة كاملة، وكان اكتشاف التعقيد المتزايد لتركيب المادة ولقوانين الطبيعة — بوجه عام — حافزًا للعلماء كيما يتوصَّلوا إلى كشوف تطبيقية أعقد من كل ما عرَفَته البشرية حتى ذلك الحين، بمعنى أن نطاق العلم قد اتَّسع إلى حدٍّ هائل، كذلك فإنَّ عدد العلماء يتزايد بمعدَّل مُذهِل؛ ولو افترضنا — تخيُّلًا — أن الزيادة في عدد العلماء قد استمرَّت بنفس معدلها الحالي فسيكون معنى ذلك أن كل رجل وامرأة وطفل لا بد أن يُصبح عالِمًا في أواسط القرن المقبل. وكذلك يُقدِّر هواة الإحصاءات أنه لو استمرت زيادة الإنتاج في البحوث العلمية بنفس معدَّلها الحالي، فإن وزن المجلات العلمية الموجودة في العالم سيُصبِح — بعد مائة سنة — أثقل من الكرة الأرضية ذاتها. ولو استمرَّ الإنفاق على الأبحاث العلمية في الدول المتقدمة يَتزايد بمعدله الحالي، فإن هذه الدول ستُنفِق — بعد فترة لا تزيد عن خمسين سنة — كل دخلها القومي على البحث العِلمي والتكنولوجيا، وهي وحدها كافية لكي يدرك القارئ إلى أي حدٍّ ستظلُّ الهُوَّة بيننا وبين العالم المتقدم تتَّسع باستمرار، نعاني نحن من نوع عكسي من الخوف على مستقبلنا في عالم يُقرِّر مصيره العلم الذي لا نُبْدِي به اهتمامًا كبيرًا، وعلى أية حال فسوف نكتفي بالكلام عن مجموعة من الإنجازات التي يكاد يكون هناك إجماع في الرأي على أهميتها العظمى في حياة الإنسان المعاصر، فقد كان من المعروف — قبل الحرب العالَمية الثانية — أن العلماء الألمان قد قطعوا شوطًا بعيدًا في محاولة استغلال المعرفة النظرية المتعلِّقة بالتركيب الداخلي للذرة، وكان من الحقائق المسلَّم بها أن هذه المحاولات سوف تَسير أولًا — وقبل كل شيء — في الاتجاه العسكري، وبالمسلك العدواني المغرور الذي كان هتلر يسلكه مع الدول المحيطة به في الفترة السابقة على تلك الحرب. وهكذا اجتمعت كلمة هؤلاء العلماء — وعلى رأسهم أينشتين نفسه — على أن يكتبوا إلى الرئيس روزفلت — رئيس الولايات المتحدة في ذلك الحين — داعين إياه إلى أن يُخصِّص لهم الأموال والاستعدادات اللازمة؛ حتى يتسنَّى لهم الوصول إلى هذا السلاح الجديد قبل أن يتوصَّل إليه حاكم طاغٍ يُمكن أن يسيطر به على العالم ويَفرض عليه قِيَمه وأفكاره المُعادية للإنسان. مما عجَّل بالاستسلام النهائي لليابان، وسوف نتحدَّث فيما بعد عن الدلالة الإنسانية للسلاح الذري بوجه عام — ولقنبلتي هيروشيما ونجازاكي — وهما القنبلتان الذريتان الوحيدتان اللتان استُخْدِمَتا في حرب حقيقية حتى اليوم — بوجه خاص، ولكن المُهم في الأمر أن العلم الإنساني وصَل بهذا الانفجار إلى نقطة تحول حاسمة في تاريخه، ومع ذلك فلا بدَّ أن نُسجِّل أن أعدادًا من الإنجازات الهامة قد تحقَّقت في هذا الميدان؛ كانت تلك آلات مِن نوعٍ لم يألفه الإنسان من قبل؛ بل إنها كانت آلات تُصحِّح مسارها بنفسها، وتتبادَل مع نفسها الأوامر وتنفيذ الأوامر، إذ إن كفاءتها كانت أعلى بكثير من كل أنواع الآلات السابقة، فضلًا عن أنها تُوفِّر نسبة كبيرة من الأيدي العاملة؛ هو حلم الآلة التي تقوم بكل أعمال الإنسان وتُعْفِيه من مشقة العمل، إذ إن كل ما كان يستعين به الإنسان قبل ذلك من وسائل وأدوات — ابتداءً من الفأس ودوابِّ الحمْل حتى الآلة البخارية والكهربائية — كانت توفر على الإنسان طاقته «الجسمية»، ويؤمن بأن شيئًا لن يستطيع أن يمد إليه يد المساعدة في هذا الميدان بالذات. فكمية المعلومات في أي ميدان من ميادين البحث — مهما كان مقدار تخصُّصه — تتَّسع إلى حدٍّ يستحيل على العقل البشري — مهما كان مدى قوة ذاكرته — أن يستوعبه، وفي البلاد المُتقدمة علميًّا يتعين على الباحث قبل أن يشرع في عمل علمي جديد أن يكون ملمًّا بأحدث ما تمَّ التوصل إليه في ميدانه حتى يفيد من جهود الآخرين، فهي تحفظ المعلومات المتعلِّقة بالكتب والمقالات الهامة في كل موضوع فرعي، وتُزوِّد الباحث على الفور بقائمة كاملة من المراجع التي يتعيَّن عليه قراءتها في الميدان الذي اختاره، أو تُقدِّم إليه المعلومات المطلوبة مباشرةً وتعفيه من جهود شاقة تدوم «سنوات» دون أن تصل أبدًا إلى المستوى المطلوب. ومِن المعروف أن الدور الذي تقوم به هذه العقول في الميدان العلمي أوسع من ذلك؛ إلى آخر ذلك من العوامل التي يستحيل على العقل البشري أن يَجمعها كلها في عملية واحدة. هو أن هذه العقول إذا كانت هي ذاتها نتاجًا لتفكير وتطبيق علمي رفيع، فإنها من جانبها تعمل على زيادة ارتفاع مستويات التفكير العلمي في البلاد التي تستخدمها على نطاق واسع؛ وإذا كانت تقوم بدلًا منه بالربط بين العوامل التي تَزداد تعدُّدًا وتعقيدًا كلما ارتقى البحث العلمي، لأنَّ لهذا الموضوع أهمية خاصة في عالَمنا العربي على وجه التحديد؛ وهذه كلها أعمال لا تحتاج إلى إبداع أو ابتكار. أو أن تتذوَّق الفن الرفيع أو أن تمارس عملًا عقليًّا يحتاج إلى تعمُّق، ولكن هذا كله لا يعدو أن يكون عملية استعراضية جوفاء، بل يجد متعته الكبرى في «إفراغ» مُحتوياته أمام الناس في كل مناسبة، أما الإنجاز الثالث الذي نودُّ أن نقول كلمة موجزة عنه — في هذا الحديث عن إنجازات العلم المعاصر — فهو غزو الفضاء، وكانت لديه دوافع قوية للإسراع في هذه الأبحاث؛ بينما الأرض الأمريكية بعيدة تمامًا عن كل أسلحته المعروفة حتى ذلك الحين، بل لقد بدا في وقتٍ من الأوقات أن هناك اندماجًا بين هذه الأهداف كلها؛ وباقتراب الوقت الذي يتعين فيه على الإنسان أن يتخذ قرارات حاسمة بشأن التزايُد السكاني المخيف، ومن الجائز أن يكون اتفاق التوقيت هذا مثلًا آخَر من أمثلة تلك القُدرة العجيبة التي يستطيع بها العقل الإنساني أن يَهتدي إلى حلٍّ لمشكلاته في اللحظة المناسبة. وعلى أية حال فإن مَنْ يعتقد أن في هذا إسرافًا في الخيال، فعمر هذا العصر بكل إنجازاته لم يصل — حتى كتابة هذه السطور — إلى عشرين عامًا بعدُ، فهل يستطيع أحد أن يتخيَّل ما يُمكن أن يتم إنجازه بعد مائة عام أو بعد خمسمائة عام، فهل ستكون هذه الأحلام عندئذ بعيدةً عن التحقيق؟ إن الكلام عن الصعود إلى القمر كان يُعدُّ — منذ ربع قرن فقط — ضربًا من الجنون، أو من الخيال الشِّعري (والأمران كما نعلم متقاربان) فهل نستكثر على إنسان القمر الحادي والعشرين أو الثاني والعشرين أن يَصِل إلى آفاق الكون البعيدة؟ وحسبنا أن نقارن بين أسلوب الحياة في مثل هذه الأيام منذ مائة عام، ذلك لأن العلم — الذي لم يَعُد ظاهرةً هامشية على الإطلاق — يكتسب أبعادًا اجتماعية تزداد أهميتها يومًا بعد يوم،