ثانياً : سيميولوجية رولان بارت تبحث اللسانيات في المعنى الذي يتكون من تمفصل الأصوات. فيبحث في مشروعه السيميولوجي عن المعنى الذي يسنده الناس إلى الأشياء التي لا صوت لها. قليلة الفائدة من وجهة سوسيولوجية كقانون الطرقات مثلاً، ولأن اللغة كذلك تقحم نفسها دائماً في كل أنساق الدلالة. إن فعل ذل» فعل مفصلي عنده لا يمكن خلطه مع فعل «تواصل»، فالأشياء والأمتعة ليست حمالة معلومات فحسب، بل تشكل أنساقا مبنية من العلاقات بما فيها من فروقات وتعارضات وتباينات. لكن ما معنى «المتاع» (Objet) موضوع القراءة؟ تجيب المعاجم بحياد لا يعلمنا الكثير بأنه الشيء» الذي تراه العين. والمتاع هو ما يسمح للإنسان أن يفعل في العالم، ولكن إلى جانب هذا البعد الوظيفي، وكل شيء ينخرط في توليد المعنى، وحتى تلك الأشياء التي توهم بأن لا معنى يسكنها، تنتهي بأن تضخ في معنى اللامعنى، المعنى فتدل بلا دلالتها فجاءت نصوصاً متحركة متطورة بشكل تصاعدي، نفياً لما سبقه، وخلافاً لبيار بورديو الذي لولا كفاءة الباحث الذاتية وعمقه، لتحنط إنتاجه في مفاهيم ومقولات وانحسرت إمكاناته الإبداعية. دون أن يحدث تشتتاً في المنهج، فمن المصارعة الحرة مثلاً في ميثولوجيات إلى موضة اللباس، ومن اليابان في مملكة العلامات إلى الإشهار، وغيره، خلافاً لما تروج له القوى المهيمنة، ويبلغه الإشهار باستعاراته ومجازاته. بوضع حد فاصل بين العلم والحسن المشترك. يطارد بارت أقنعة مشاكلة لمواقع (Le Vraissemblable) تسعى إلى تكريس الأيديولوجيا المهيمنة عبر نفي التاريخ القائم في العلامة والإيهام بعالمية العابر والطارئ. تاريخياً، أتبرم ما أراه تداخلاً، كاللباس والإشهار والأكل واللعبة، متى بنيت هذه الأنساق. فاللغة ليست واحدة، فيجعل من الشكل سلوكاً، وتتكون عنده ما يسميه بارت به الإيتيقاه الكتابة (١١). مغامرة الدال محاولات في الأدب والفن والثقافة : المطبخ اللباس السيارة الرياضة اللعبة الخمر، وغيرها من المسائل السيميولوجية بالمعنى السوسيري للكلمة كلها قراءات ينجزها محاول (Essayiste)، ولكنه محاول مغامر والمغامرة عند بارت ليست رغبة مرتجلة، وهي لفظة عادة ما تتردد في مدخل كل نص يكتبه، ويحصرها في ثلاث لحظات : الصادر عام ١٩٥٦ وفي هذه السنة، الذي صدر في السنة التالية. هذه المادة تمثل نماذج من ثقافة البرجوازية الصغيرة التي تسعى إلى تثبيت عالميتها، وهنا تظهر السيميولوجيا كمنهج أساسي للنقد الأيديولوجي. اللحظة الثانية هي تلك التي حرص فيها على تقديم السيميولوجيا كعلم وتمتد من عام ١٩٥٧ إلى عام ١٩٦٣ ، ومبادئ في السيميولوجيا، أما اللحظة الثالثة، فهي التي أفضت به في النهاية إلى مفهوم النص، إلى ستروس، وصولاً إلى دريدا ولاكان، وتمتد هذه الفترة من عام ١٩٦٦ إلى عام ۱۹۷۰ ، فالنص عنده أضحى مختلفاً جذرياً عن العمل الأدبي، بل ممارسة دالة؛ ما يلح عليه النص هو الدال قبل الدلالة. هناك أنساق من العلامات تتعدى حدود اللغة المكتوبة. هذا ما أراد إثباته بارت في تحليله للباس بما هو لغة ولقد افترض قبله بروست (Proust) وبلزاك (Balzac) وجود لغة للباس فنحن نتواصل من خلاله كما نتواصل من خلال الحركة والسلوك والحوار. لكن ما أنجزه بارت في نسق الموضة لا يعدو أن يكون سيميولوجيا بدائية تكتفي باقتفاء أثر اللسانيات لتطبقها على موضة اللباس المكتوب دون أن تنظر في اللباس من خلال الواقعي لما له من وجود يومي نابض بالعلامة الاجتماعية . هكذا ظلت سيميولوجيته في هذا العمل بالذات تونولوجية ما دامت تنغلق بإرادة الباحث عن المجتمع، فهي في منهجها ونتائجها قد لا تفضي إلا إلى نسق مغلق ثابت مكتف بذاته، تلك كانت قناعة الستينيات عند بارت، أما الآن ومع طغيان الصورة على الكتابة، هكذا، يتحدث بارت عن مغامرة الدال في كتاب المغامرة السيميولوجية الصادر عام ۱۹۸۵ ، الذي احتوى على مجموعة من أهم نصوصه، وقد اشتق العنوان من نص قصير لبارت سماه المغامرة السيميولوجية، وأكمله عام ١٩٦٣، من الحديث عن المغامرة، فيعتبر أن كل عمل سيميولوجي تطبيقي ينبغي أن يكون اكتشافاً أو بالأحرى استكشافاً، فبالرغم من أن الجهاز المفاهيمي للسيميولوجيا خلال هذه الفترة لم يتكون بعد بشكل جلي، فقد حاول أن ينجز عملاً سيميولوجياً مطبقاً على ملابس الموضة، كما تصفها مجلاتها، مستوداً في البداية ببعض المفاهيم الإجرائية فقط ومع ذلك تغير المشروع السيميولوجيي وتغير معه الباحث نفسه، فانحاز إلى الثاني، أي أن التحليل سينحصر في الموضة المكتوبة دون غيرها . لقد كان بارت واحداً ممن حاولوا تجسير الفجوة بين مناهج وعلوم إنسانية وأدبية مختلفة، والاستفادة منها في سياق ما يسمى اليوم بـ تضافر العلوم (Interdisciplinarite). ومن مفارقات هذا المؤلف أنه يصبح أكثر بعداً عما يؤلفه كلما حصر أفق عمله في منهج واحد، فهو لا يبدو بارتياً بما يكفي في مؤلفيه اللذين اقترنا بالسيميولوجيا دون غيرها من المناهج وهما: نسق الموضة، ومبادئ في السيميولوجيا في الأول هو كتاب في المنهج يحلل فيه بنيوياً ملابس النساء، كما تصفها مجلات الموضة، كان هدفه فيه هو تكوين نظام من المعنى دون اللجوء المكثف إلى مفاهيم خارجية (١٣)؛ أما الثاني، وبالمسليف، أو بالأخرى يبدو مصنفاً» للسيميولوجيا يثبت فيه قواعد المنهج ومفاهيمه الأساسية. ورغم الفوائد النظرية والتعليمية لهذين المؤلفين، فإنهما يبدوان الأكثر بعداً عن بارت، وتكبله عن إمكانية التجوال والمراوحة بين معارف مختلفة ومتعددة. أما في ما عدا ذلك، والبنيوية مغامراً من خلال ذلك كله في قضايا وتمثلات، عادة ما تكون خارج الاهتمامات العلمية المألوفة، ومصنفة ضمن المهمل على اعتبار أنها فاقدة للمعنى، ولعل أصالة الدراسات البارتية» تكمن في هذا بالأساس: إنه سؤال المعنى في ما لا يقرأ عادة لضالته وقلة جدواه؛ لا سؤال الطفل : لماذا ؟ وإنما السؤال الإغريقي القديم، إذن، كسيميولوجي،