ولكن ما قاله لك جدكَ ليس من تأليفه، وقد اسْتَحضرها لتعينه على إبلاغ مُرادِهِ مِنْ تَأْكيدِ حُسْنِ تَرْبِيَتِكَ، ومِثْلُ هذه العباراتِ تُسَمّى أَمْثالاً. والْمَثَلُ : قَوْلٌ قَصِيرٌ موجز جارٍ وشائع على أَلْسِنَةِ النَّاسِ، يُشيرُ إِلى مَعْنَى واحد بسيط، وحينَ يُضْرَبُ المَثَلُ للمرة الأولى لا يكونُ مَثَلًا، لكن الَّذِي يَجْعَلُ منه مثلا سائِرًا شُيوعه وانتشاره بين الناس فيما بعد. وكثيرًا ما يُنسى قائلو الأمثالِ الْأَصْليون في حين يبقى المثلُ لَفْظًا وقد قال بعضُ الأدباء: وَسُمِّي مَثَلًا لأنه ماثل في خاطر الإنسان يَسْتَدعيه كُلَّما احتاج إليه من فالأمثال تنساب انسيابا عند الحاجة إليها، وتُعَدُّ الأمثالُ جُزءًا مُهمَّا مِنَ التَّراث الثقافي والشعبي للمجتمعات الإنسانية على اختلافها؛ فالمثل نابع من بيئات الشعوب؛ لذلك يتأثر بجميع جوانب الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية فيها. ولهذا تعد الأمثالُ مِرآة الشَّعوبِ تَعْكِسُ عاداتها وتقاليدها وأخلاقها ونَظْرَتها للحياة. إنها لُغَةُ الشعب كله بجميع طبقاته ومستوياته العلمية والثقافية؛ ويعود إليها عالم الأخلاق؛ وطَريقَةِ تَفْكيرِهِم مُحاوِلِينَ رَفْعَ السِّتَارِ عَنِ الْبَيئَةِ الَّتِي نَشَأْتِ الأَمثالُ في ظلالها وتَرَعْرَعَتْ مُتَنَقِّلَةٌ من جيل إلى آخَرَ . وتلقي البيئة التي نشأت الأمثال فيها بآثارها على مَضْمُونِ المَثَلِ، وعلى الأَلْفاظِ الْمُنتَقَاةِ لِلتَّعبير عنْه؛ فَمَثَلًا جَاءتْ أَمثالُ أَبْنَاءِ الْجُزْرِ والسَّواحِلِ مَصْبوغَةً بِحَياةِ البحرِ بِما يَتَضَمَّنُه من صيد وإبحار بالسفن، واغْتِرَابِ عَنِ الأهل من أجل لقمة العيش، في حين ترسم أمثال أهل الصحراء صورة عن حياة البادية بما فيها من تَنَقَّلٍ وَراءَ العُشْبِ والماء، بَيْنَمَا نَلْحَظُ أَنَّ الأمثالَ الْمَأثورَةَ عن حياة الفلاحِ يَغْلِبُ عليها طابع الزراعةِ والحِراثَةِ بِما توحيهِ مِنْ حَياةِ الاستقرار، 1. ثبات التركيب اللغوي: إِذْ تُضْرَبُ الأمثال كما قيلت في المرة الأولى، وذلك حفاظًا على سِمَةِ ثَبَاتِ نَصِّها الأوَّلِ؛ باريها مفعولٌ به للفعل أعط. 2. إيجاز اللفظ: في المثل معان كثيرة وغزيرة تحملها ألفاظ قليلة، وهذا هو السبب في سهولة حِفْظِ المثل وانتشاره وانتقاله من جيل إلى آخر، و ليسَ في كلام العرب أكثر إيجازًا من الأمثال. 3 إصابة المعنى لأن المثل موجز العبارة قليلُ اللُّفْظِ فلا بُدَّ مِنْ أَنْ تَحْتَوي هذه العبارة فكرةً صائبة وعميقة. كما في قَوْلِ العرب: (اعْقِلْ وَتَوَكَّلْ - إِيَّاكَ ومَا يُعْتَذَرُ مِنْه) . 4. التشبيه المثل مبني على المماثلة والتشبيه الواقع بين حادث قديم قبل المثل فيه، كقولك مثلا: (رُبِّ أَحْ لَكَ لَمْ تَلِدُهُ أُمُّكَ - رَجَعَ بِخُفَى حُنَيْنٍ) . 5. الرشاقة اللفظية في الأمثال جرس موسيقي، وتأتي موسيقا الأمثال ما فيها من ألوان الجناس والشجع والمجاز والتضاد. فالمثل ألفاظ بسيطة يتبع بعضها بعضًا برابط متين جميل، ولعل الأمثال الآتية توضّح لك ذلك: ((حالَ الْأَجَل دونَ الْأَمَل - وإذا حانَ القَضاءُ ضَاقَ ومن أبرز وظائفِ ضَرْبِ الأمثال :أ - الوظيفة الأخلاقية : فغالبًا ما نجد الأمثال تُرْشِدُنا إلى التَّشَبُّثِ بالقيم الأخلاقية الرفيعة الإيجابية، وتحثنا على الابتعاد عن القيم السلبية كالطَّمَعِ والحَسَدِ، قال المثل: (الحسود لا يسودُ حافظ على الصديق ولو في حريق - إياك وما يُعْتَذَرُ منه – كُلُّ فتاةٍ بأبيها مُعْجَبَة) ب - الوظيفة الدينية: هناك العديد من الأمثال التي تلعب دورًا دينيا في حياتنا اليومية، ومن بين الأمثال القرآنية الْمُعَبِّرة عن يلعب المثل دورًا نَفْسيًا وذلك عن طريق تَهْدِئَةِ النَّفْسِ الْبَشَرِيَّةِ، وبَشِّ الأملِ بِغَدٍ أجمل قال المثلُ: (سَحابُ الصَّيفِ عن قليلٍ يَنْقَشِعُ) المثل خطاب بعيد عن الحياد؛ فكلُّ مثَلٍ يُقالُ ويُضَرَبُ تتوارى خلفه نوايا وأهداف يُريدُ لها قائلها أن تَتَحَوَّلَ إلى واقع في حياة النَّاسِ وسلوكهم مع بعضهم. فإذا كان المثل ذا طابع أخلاقي وديني ونفسي، فإنَّه بالإضافة إلى ذلك يُعَدُّ ذا طابع ووظيفة تعليمية، فهو يوجه السُّلوك الإنساني نحو السمو والرِّفْعَةِ، ويُسَلِّطُ الضَّوْء كذلك على القيم التي لا يَقْبَلُها، والمثل في إطاره التعليمي يوجه السلوك بأسلوب مباشر أحيانًا، كما يوجه بأسلوب غيرِ مُباشر أحيانًا أخرى، ولكنه أسلوبٌ طَريفٌ لطيفٌ خفيفٌ على النَّفْسِ، يَبْتَعِدُ عن الأسلوب الْخَطَابِي الْوَعْظي، ولعلّ هذه الأمثالَ تُعَدُّ من أكثر الأمثالِ الْمُسْتَخْدَمَةِ لِغَرَضِ التَّعْلِيمِ والتَّوْحِيهِ: (إِنَّكَ لَا تَجْنِي مِنَ الشَّوْكِ الْعِنَبَ – الجارُ وتهذيبيَّة) لذلك فإنَّنا نُجَانِبُ الصَّواب إذا نظرنا إليها على أنها شكل فولكلوري موروث عن الآباء والأجداد فقط. إنها في الواقع عَمَلٌ كَلامي يدعونا إلى التَّحَرُّكِ، فهي سَريعَةُ النَّفاذِ إلى العُقولِ والقُلوبِ معًا.