الريف: مجتمع هادئ وخلاب، حضارته الجود والكرم، قامته قصيرة، و رقعته عريضة، يتأفف من الأدوار العليا في عزة، رداؤه فضفاض، مزركش بالأشجار والخضرة، تطرزه الترع السمراء، والعشب المختلف أصنافه وألوانه. له ثوبان: ثوب الصيف، تزينه عيدان الأرز المتزاحمة، يغمر سيقانه النحيلة ماء فرات، تنشط فيه الأسماك، وتتزاوج وهى آمنة من إزعاج الصيادين، تزيده أشجار القطن جمالاً بأكفها العريضة، وذهبها الأبيض. ثوبه الثاني: هو ثوب الشتاء، تلونه عيدان القمح الذهبية، و هي تعرض سنابلها في سخاء وكرم، لتكون قوتا للبشر، ومائدة لمناقير الطير. الدرب فيه ترابى داكن، كأنه رداء أهل الوقار، تنتشر على جوانبه الأشجار، ليأنس بظلها الغريب والقريب، وتبقى أغصانها استراحة ومضجعا للطير، وعصافيره منبهاً طبيعيا لاستيقاظ الفلاح. الناس فيه سواسية، أسرة واحدة، يعرف فيه الغريب من ملامحه، فتكون وقع خطاه مدعاة للاستضافة والكرم. أيها القادم من أوساط المدينة، من بين الزحام والضوضاء، وأنفاس السيارات الخانقة، ومن قيد العمارات الشاهقة، التي طردت الشمس بقامتها الطويلة، تعال إلى حيث الريف، لتطرد أنفاس العلل، تعال وامدد قدماك، و تنفس الصعداء تحت أشجار الصفصاف، وأطلق بصرك يسرح و يمرح، ويجمع حلل الزروع، تعال املأ رئتيك بأريج الزهور، تعال لترحب بك الزروع، وتكشف لك عن وجهها الجميل. أيها القادم من أوساط المدينة، وها أنت تمضي بين الزروع، تشعر أن خطاك تحيرك، في أي تجاه تسير، فتقف مندهشاً حيرانا، فينبهك الأولى... أن تبدأ التجوال تجاه اليمين، وهنا يتبين لك ساقية تدور، تشدها بقرة تسر عيناك، وعلى شمالك ترعة عشيبة، على حافتها بط مختلف ألوانه، يقذف نفسه على صفحة الماء، يذكر بجند أكتوبر وهو يعبر قناة السويس.. فتستمر على خطاك فيتبين لك شجر الجميز المثمر، ألمرصوص على حافتي الجدول العريض، فتحس بشهيتك تسوق لعابك طلبا للثمار الطازجة. وها أنت ترسل بصرك لتترقب الفلاحين هنا وهناك؛ فهنا رجل جالس و بجانبه نار تندلع من فتات الأغصان اليابسة، يعد لنفسه، – و لكل حاضر – شايا لم تتذوق جمال نكهته من قبل، ومن بعيد يقع بصرك على امرأة تحمل سرة، ربما فيها غذاء لزوجها الذي يضاحك الأرض بفأسه العريضة.. وهناك على حافة الترعة الكبيرة، خليط من الأعمار، كل منهم يرافق خلوته في مكر و انسجام، يترقب غوص الغماز الطافي، كي يخطف السمك من عالمه المائي.. وقد يشدك تغريد العصافير وهي تتحاكى فوق الاغصان، ويعجبك نبات (الحلفا، والبوص) المنتشر في جماعات، وكأنها عائلات تسكن الحواف.. ويدهشك طيور البجع المهاجر، الأمن في المراتع الواسعة، وقد تثيرك الأسماك، وهي تغوص وتطفو، وكأنها تحتفل بحضورك، ويدفعك الفضول بأن تحاكي فلاحاً، لتستقى من رجولته وعزته وكرامته وطيبة قلبه.. يا ريف يا صاحب الفضل والكرم، هنيئا لأهلك بتميزك، وهنيئا لأهل المدن بخيراتك.