ولا تقولوا: ومن منا لا يعرف نفسه؟ فإن كان مكتوباً على باب معبد أثينة كلمة سقراط: "أيها الإنسان اعرف نفسك". ومتى تعرف نفسك وأنت لا تحاول أن تخلو بها ساعة كل يوم تفكر فيها، فما أنا؟ ولقد كنت يوماً طفلاً ثم صرت شابًّا، وكنت شابًّا وصرت كهلاً؛ فأين ذهبت تلك اليد؟ ومن أين جاءت هذه؟ وإذا كانا شخصين مختلفين فأيهما أنا؟ هل أنا ذلك الطفل الذي مات ولم يبق فيَّ من جسده ولا فكرة بقية؟ أم أنا الكهل الذي يلقي هذا الحديث؟ أم أنا الشيخ الذي سيأتي على أثره بجسمه الواني وذهنه الكليل؟ ما أنا؟. ما أنت؟ وما نفسك؟ وما الحد بينهما؟ وكيف تحدثك أو تحدثها؟. فإذا ذهبت تنهض ناداك مناد منك أن تَرَيَّثْ قليلاً، فهل تساءلت ما هذا؟ وما ذاك؟ وما أنت بينهما؟ وما الذي يزين لك المعصية ومن يصوِّر لك لذتها؟ ويجرُّك إليها؟ وما الذي ينفرك منها، يقولون: إنها النفس وإنه العقل؛ فهل فكرت يوماً ما النفس الأمَّارة بالسوء؟ وما العقل الرادع عنه؟ وما أنت؟. ثم تهدأ شهوتك فلا ترى أقبح من هذه الأماني، فتجد الألم فيما كنت تراه لذة، والندم على ما كنت تتمناه. فتحس كأن سكن قلبك ملَك، فلا تجد في نفسك ولا في الوجود أثارة من ذلك العالم. فهل تساءلت مرة ما أنا من هؤلاء؟ هل أنا ذلك الإنسان الشهوان الذي يستبيح في لذَّته كل محرَّم ويأتي كل قبيح؟ أم ذلك الإنسان البطَّاش الذي يشرب دم أخيه الإنسان، وأنت عالم مجهول؟ كشفت مجاهل البلاد، فهل حاولت مرة أن تدخل إلى نفسك، وتكون في مسرَّة فترى الدنيا ضاحكة، حتى أنك لو كنت مصوراً لملأت صورتها على لوحتك بزاهي الألوان، ولكن كنت أنت الضاحك الباكي. وملأت الدنيا فلسفة شؤم إن كنت فيلسوفاً، إن النفس يا أخي كالنهر الجاري؛ فابتغ لنفسك الكمال أبداً، واصعد بها إلى الأعالي، ولا تجمد على حال ولو تباعدت النقلة، فتعجب كيف كنت تستطيع السهر؟ وتدمن الخمر حتى ما تظن أنك تصبر عنها؛ فما هي إلا أن تدعها حتى تألف تركها، وتعجب كيف كنت تشربها؟! وتحب المرأة حتى ما ترى لك حياة إلا بها، فما هي إلا أن تسلوها حتى تعجب كيف كنت تحبها؟! فلا تقل لحالة أنت فيها: لا أستطيع تركها؛ وكل حالة لك محطة على الطريق، وتساءل أبداً: ما النفس؟ وما العقل؟ وما الحياة؟ وما العمر؟ وإلى أين السير؟.