نتابع مع مؤلف الكتاب في هذه الحلقة قصة وأعمال المستشرق المستعرب الإنجليزي أديلارد الذي استبد به الشغف العلمي للاطلاع على نهضة العرب ـ المسلمين في أوائل العصور الوسطى. حيث أجاد اللغة العربية وعكف على ترجمة أهم الكتب والموسوعات العلمية، ويقارن المؤلف بين ما وصل إليه العالم العربي الإسلامي من تقدم حضاري واستنارة فكرية، وبين حالة الجهل والتخلف والظلام التي كانت مخيمة على أوروبا في تلك الفترة، يشير إلى أنه تجّول في مناطق المشرق المسلم ابتداء من عام 1109 للميلاد. في سياق تناوله لجهود المستشرق والمستعرب أديلارد في منتصف الفصل المذكور، وقبل حلوله في مدينة أنطاكية، التي كانت مركزا مزدهرا لترجمة علوم العصر من العربية إلى اللاتينية، كان الغرب الأوروبي واقعا بين براثن الجهل والفوضى والانغلاق الديني، أو حتى لطرائق تحديد المواقيت الزمنية بالليل أو بالنهار. إلا أن هذا كله بدأ في التغير مع قيام الراهب أديلارد بترجمة واحد من أعظم المؤلفات العلمية في التاريخ وهو: النظام الرياضي لهندسة أقليدس. مؤسس مدرسة الإسكندرية وأسدى أيادي بيضاء إلى علوم الرياضيات والمنطق في حضارة اليونان العريقة. يقول مؤلف كتابنا: كان حظ إقليدس طيبا مع العرب الذين أدركوا بحق أهمية إنجازاته العلمية وأجادوا بكفاءة وإتقان دراسة موسوعة «العناصر» إلى جانب المجسطي في علوم الفلك، إلى أن علماء العروبة والإسلام لم يظلوا على آثار العبقري الإغريقي أقليدس من منظور الانبهار أو التسليم: لقد درسوه وعمدوا إلى تصحيح ما وقع فيه من أخطاء. ولكنهم في كل حال أفادوا العلم الإنساني عندما أنجزوا ترجمة أقليدس من اليونانية إلى لغتهم العربية وبهذا توفرت لحكيم اليونان ترجمتان «عباسيتان» كما يعبر مؤلف كتابنا. وكان العمل الأول من إنجاز العالم المسلم «الحجاج» الذي أكمل ترجمة كاملة لموسوعة أقليدس ثم وضع موجزاً ملحقاً بها وتم هذا العمل بتكليف مباشر من الخليفة عبدالله المأمون. كما أسلفنا، بمثابة أكاديمية البحث العلمي في بغداد العباسية. بعدها وكما يقول مؤلفنا أصدر العلماء العرب والمسلمون عشرات من التعليقات على كتاب هندسة أقليدس كما ترجموا إلى لغتهم عددا آخر من كتب الحكيم اليوناني. فضل الترجمة العربية ومن ثم حفظتها عبر مراحل الزمن إلى أن بدأ الأوروبيون مع انقضاء العصور الوسطى في ترجمة تلك الكلاسيكيات الثمينة من العربية إلى اللاتينية والى عدد من لغات أوروبا الحديثة (الإنجليزية ? الفرنسية) وكان في ذلك تباشير المرحلة الواعدة التي أطلقوا عليها اسم «الرينسانس» بمعنى الإحياء أو الانبعاث أو هي عصر النهضة الأوروبية التي كانت مقدمة منطقية وإرهاصا مبشرا بإنجازات الغرب في العصر الحديث. في نفس السياق يعود مؤلف الكتاب إلى جهود «أديلارد» وخاصة في ترجمته الخطيرة لواحد من أهم كتب الرياضيات في تاريخ الحضارة الإسلامية وهو كتاب الخوارزمي بعنوان «زيج السندبند» عن الجداول الرياضية. وفي كل حال فقد أفضى هذا الشغف من جانب الرحالة الإنجليزي المثقف إلى أن أولى اهتماما متزايدا بهذه الإنجازات العلمية التي حققتها حضارة العرب والمسلمين بعامة وهو ما عبرت عنه سطور دراسته الحافلة التي حملت عنوان «قضايا في العلوم الطبيعية» وهي التي حفلت بعبارات أعرب فيها أديلارد عن امتنانه ? شأن كل دارس محترم ? لمن سبقه ولمن ترجم واستوعب دراساتهم من علماء ومفكري الإسلام والعروبة. بل يبدو أن رحلة أديلارد، الراهب الإنجليزي المثقف، إلى بلدان المشرق الإسلامي، دفعته إلى نوع من المقارنة التي يسجلها كتابنا بين حال التحضر الذي لمسه في بلاد الإسلام في القرن الثاني عشر وحال التدهور الذي كانت عليه إنجلترا نفسها وهي وطنه الأم كما سلف إيضاحه مخالطيه ورفاقه. طرح مقارنة بين حال الشرق العربي المسلم وأحوال المجتمع الإنجليزي وقتئذ فقال: وعندما سألوه عن سبل الحل أو العلاج الناجع لهذا كله أجاب أديلارد قائلاً: إنها المعرفة وهي الكفيلة بتقويم الأخلاق. وحلت محلها شخصية الإنسان الذي يؤرقه القلق واللهفة إلى العلم والمعرفة، فهو لا ينفك باحثا عن الحقيقة العلمية بغير هوادة، وهو ما أفضى به إلى رفض الفساد الثقافي والغرور البشري والفكر الجامد المتخلف الذي كان مخيما على أقطار الغرب قرونا طويلة. مقالة في الإسطرلاب أو فلنقل بخصوص آلية تكنولوجية كان لها أهميتها بالنسبة للعالم كله منذ أيام العصور الوسطى وما بعدها. والمقالة تحمل العنوان التالي: عن استعمال الإسطرلاب وهي الآلة التي توصل إليها علماء الفلك والرياضيات المسلمون منذ أيام «بيت الحكمة» لقياس ارتفاعات الأجرام السماوية. ومن خلال المقالة أيضاً أنهى أديلارد المقولة العتيقة التي سبق وروج لها العالم الإشبيلي ايزادور بأن «الأرض مسطحة». وبدأ أدريلارد يقول لقومه أنه تعلم من أساتذته العرب والمسلمين أن الكون لا يتخذ شكلا مربعا، ولكنه يتخذ شكل النطاق الدائري. ويقول المؤلف في هذا السياق: كان لتجربة أديلارد في مضمار العلوم العربية الفضل في رسم صورته وإقرار مكانته بوصفه عالِمَا يحظى بالاحترام ومثقفا سياسيا متمكنا ومتمرسا لدى عودته إلى وطنه الأم في إنجلترا، حيث كانت سيرته ورحلاته مصدر إلهام لعدد من المثقفين الذين شجعتهم أيضاً روح المغامرة ومن ثم اتبع بعضهم خطوات اديلارد نفسه كي يستزيدوا من علوم العرب في العالم الإسلامي في كل شيء، ابتداء من علم الفلك وليس انتهاء بعلم الحيوان. عن الملك ـ الفيلسوف وليس صدفة أن يسدي مشورته إلى الملك الإنجليزي قائلاً إن مملكته في المستقبل لابد وأن تكون نموذجا راديكاليا لما يجب أن تكون عليه السياسة والحكم. ومن ثم تكون مملكتك ? يا صاحب الجلالة (هنري الثاني) متسامحة مع كافة الأديان والعقائد، وعليها ? يضيف أديلارد، أن تعترف بمكانة العرب بفضل ما تضمه مجتمعاتهم من مفكرين وعلماء. فقد كانت سيرة «أديلارد أوف باث» مصدر إلهام لكثير ممن نسجوا على منواله ممن يصفهم كتابنا مع بدايات الفصل السابع بأنهم رواد الدراسات العربية، (ستوديا أرابوم كما كانوا يعرفونها باللاتينية)، وهم علماء الغرب الذين شرعوا مع العصور الوسطى في التجوال عبر أراضي الأندلس الإسبانية المسلمة آنذاك. وحتى بعد الحروب التي استرد بها الفرنجة الأوروبيون إسبانيا، وحتى بعد الغزوات الاستعمارية الأوروبية التي رفعت شعار الصليب، كانت عيون الغرب مسلطة، يواصل المؤلف تحليله قائلاً: بعد سقوط غرناطة في يد جيوش ايزابيللا وفرديناند عام 1492، شهدت تلك المناطق سلوكيات أقرب ما تكون إلى ظاهرة «حمى البحث عن الذهب» التي شهدتها أميركا خلال القرن التاسع عشر.