. وكادوا أن يعهدوا وجهه كجزء لا ينفصل عن القرية كلها : وجهه المربع يعترضه حاجبان يتصلان ببعضهما بأخدود يعين طرف أنفه العلوي ، وأنفه المفلطح تدور بأسفله دائرتان واسعتان فوق شارب رمادي كثيف ، . أما ذقنه فلقد كانت عريضة حادة ، بردت رقبته الثخينة بردة . إن سعيد الحمضوني نادراً ما يتكلم عن ماضيه ، وما ينفك يعتقد أن غداً سيكون أحسن من اليوم ، بشيء كثير من المبالغة ، أخبار سعيد الحمضوني أيام كان يقود حركات ثورية في ۱۹۳۹ ، يقولون - هناك في القرية - إن سعيداً أطلق سراحه من المعتقل لأنه لم يدن . . ويقال إنه لم يقبض عليه بعد ، ويربط الصبيان بوجهه كل أحاسيسهموتخيلاتهم التي يرسمونها للرجل الممتاز . وليد المغامرة القاسية . . لقد عاد سعيد مؤخراً من يافا ، وأحضر معه رشاشاً من طراز الماشينغن » ، كان قد قضى قرابة أسبوع كامل يجمع ثمنه من التبرعات ، ومع أن سكان السلمة كانوا على يقين كبير أن ثمن مدفع من هذا الطراز لا يمكن أن يجمع من التبرعات ، فلقد آثروا أن يسكتوا ، لأن وصول المدفع الرائع أهم بكثير جداً من طريقة وصوله ، فالقرية في أشد الحاجة إلى أي نوع من أنواع السلاح ، فكيف إذا حصلت على سلاح من نوع جيد ؟ لقد عرف سعيد الحمضوني ماذا يشتري ! إن هذا المدفع ، مدفع « الماشينغن » ، كفيل برد أي هجوم يهودي مسعور ، إنه نوع راق من السلاح ، والقرية في أشد الحاجة إليه . . فلماذا يفكرون في طريقة وصول المدفع ؟ ولكن سكوت رجال السلمة ، لقد بقيت المشكلة بالنسبة لهن تلح إلحاحاً قاسياً ، ولما لم يجدن من يدلهن على حقيقة الأمر ، استطعن أن يقنعن أنفسهن أن سعيد الحمضوني كان قد سلم في ثورة ۱۹۳۹ مدفعاً من هذا الطراز أبلى من خلفه بلاء حسناً ، ثم خبأه في الجبال إلى أن آن أوان استعماله من جديد . ولكن التساؤل بقي متضمناً في أعمق أعماق سكان السلمة ، لم يكن من اليسير أن يجمع الإنسان ثمن مدفع منطراز الماشينغن . . إذن فمن أين أتي سعيد الحمضوني بهذا المدفع ؟ نعم . من أين ؟ المهم أن هذا المدفع الأسود صار قوة هائلة تكمن في نفوس أهل السلمة ، وهو يعني بالنسبة لهم أشياء كثيرة ، أشياء كثيرة يعرفونها ، وأشياء أكثر لا يعرفونها . . ولكنهم يشعرون بها ، . إن كل كهل وكل شاب في السلمة ، صار بربط حياته ربطاً وثيقاً بوجود هذا المدفع ، وصار يستمد من صوته المتتابع الثقيل ، نوعاً من الشعور بالحماية . . وكما يرتبط الشيء بالآخر ، ربط الناس صورة المدفع بوجه سعيد الحمضوني المربع ، ولم تعد تجد من يفصل هذا عن ذاك في حديث الدفاع عن السلمة ، إن سعيد الحمضوني أصبح الآن ضرورة مكملة . كانوا يشعرون أنه أداة من أدوات المدفع المعقدة . . شيء كحبل الرصاص ، . كالماسورة ، متماسك لا تنفصل أطرافه عن بعضها . لقد صار يربط سعيد الحمضوني حياته نفسها ربطاً شديداً بوجود المدفع . كان المدفع يعني بالنسبة له شعوراً هادئاً بالطمأنينة ، شعوراً يوحي بالمنعة : فهو دائم التفكير بالمدفع ، دائم الاعتناء به ، تكاد لا تراه إلا وهو يدرب شباب القرية على استعماله ، ويدلهم في نهاية التدريب المكان الذي وضع فيه خرقة لمسح المدفع ، هذا المكان الذي سيصير - فيما بعد - معتادة . ومع مرور الأيام بدأ سعيد الحمضوني يتغير . وبدا كأنه يضمر شيئاً فشيئاً ، وأحست شباب السلمة أن سعيد الحمضوني صار يبدو أكبر من ذي قبل ، وأنه صار يفقد هذه الحركة الحية في وجهه وفي صوته . صامت إلى حد يخيل للإنسان معه أنه نسي كيف كان يتكلم الناس ، وصار شيئاً مألوفاً أن يجده الناس منطلقاً إلى جنوب السلمة ، حيث ركز المدفع ، ليجلس وحيداً بقربه إلى العشية . . هل كان يعتقد إنسان أنه سيرتجف كذرة من القطن المندوف على قوس المنجد ؟ لقد فتحوا عليه باب داره والصباح يوشك أن ينبلج ، وتضاخمت أمامه كتلة سوداء ، وبرز منها صوت أحد رجاله ، يدور كالدوامة ليبتلع كل إحساس بالوجود : - المدفع . . لقد أصابه العطب . . إن ماسورته تتحرك بغير ما توجيه . وأحس سعيد الحمضوني بقوة جبارة تقتلع من جوفه شيئاً بعز كان يشعر بكل هذا وهو منطلق عبر الحقول الباهتة النائمة في آخر الليل . . ووصل إلى حيث كان الرشاش يتكئ كالطفل الميت على الأغصان اليابسة ، إلا طلقات البنادق الهزيلة ، تحاول عبثاً الوقوف في وجه الهجوم . وهز سعيد الحمضوني رأسه وكأنه يواسي نفسه بمصاب ابنه ، ثم فكر أن لا بد من إجراء . . شيء قوي كالكلابة يجب أن يمسك الفوهة الهاربة إلى بطن المدفع . . شيء قوي . . سأشد الماسورة إلى بطن المدفع بكفي . . لا يوجد أية دقيقة لتضيع في الكلام . . دعنا نجرب . . - اطلق ! - سيرانا اليهود وأنت فوق الحفرة . - اطلق ! - ستحرق كفيك بلهب الرصاص . . - اطلق . . اطلق ! وبدأ المدفع يهدر بصوته المتتابع الثقيل ، ومع صوته المحبوب شعر سعيد الحمضوني بنفسيته التي تغذت طويلاً بالثورة والدم هي ذي تتقدم إليه بتؤدة ، . وكم هو جميل أن يختار الإنسان القدر الذي يريد . . وسمع صوته من خلال دقات الرصاص - اسمع أريد أن أوصيك وصية هامة . . وعاد يصيخ إلى المدفع واستخلص من صوت الرصاص ثقة جديدة ليتابع وهو يحاول أن يمضع ألمه : - قرب قرية أبو كبير ، . عرفته ؟ حسناً ! لي هناك مبلغ جيد من المال ، . أن أرجع الأقبضه بعد أن يفحصوا الدم . . في كل مرة يقولون أنهم يريدون أن يفحصوا الدم كأن دم الإنسان يتغير في خلال أسبوع ونصف . . إن ثمن المدفع لم يسدد كله . ستجد اسم التاجر في داري . لقد دفعت قسماً كبيراً من ثمنه من تبرعاتكم . . هل تعرف أنهم يشترون الدم بمبلغ كبير ؟ لو عشت شهرين فقط ؟ شهرين آخرين لاستطعت أن أسدد كل ثمنه . . إنني أعطيهم دماً جيداً . . خذ حسن وحسين واذهب إلى ذلك المستشفى . . ألا تريد أن يبقى المدفع عندكم . . إن حسن وحسين . . يعرفان كيف يذهبان إلى هناك . . إن دماءنا جميعاً جيدة . . جيدة جداً . . القضية قضية الحليب الذي رضعناه . . أريد أن أقول لك شيئاً آخر . . إذا تراجع اليهود هذه المرة . . تكون آخر مرة يهجمون بها من هذه الناحية . . فعليكم أن تنقلوا المدفع إلى الشمال . . لأن الهجوم التالي سيكون من هناك . . واشتد شعوره بالنار تلسع كفيه بقسوة . . وأحس إحساساً ملحاً أنه لو كان في صحته العادية لاستطاع أن يقاوم أحسن من الآن ، وراوده شعور قاتم بالندم على أنه سلك في شراء المدفع ذلك السبيل ، ولكنه أحس إحساساً دافقاً أن المدفع طرف آخر من الموضوع ، . إن وجوده يحافظ على أهميته قبل أن يموت هو ، . فأغمض عينيه ، وحاول جاهداً أن يحرر نفسه من سجن ذاته كي ينسى ألمه . . فأسقط ركبته على الأرض في ثقل . . وعلى صوت الطلقات المتقطعة بانتظام وعنف . . أحس سعيد الحمضوني بأشياء كثيرة . . كأنها ملايين الأبر تدخل في شرايينه فتسلبه ما تبقى من دمه ، ثم شعر بأطرافه جميعها تنكمش كأنها ورقة جافة في نهاية الصيف . . وبجهد شرس حاول أن يرفع رأسه ليشم الحياة ، إلا إنه وجد نفسه فجأة في تنور من ذلك النوع الذي يكثر . والذي عاش إلى جواره فترات طويلة من صباه ، وجد نفسه في ذلك التنور جنباً إلى جنب مع الأرغفة الساخنة تحمر تحت ألسنة اللهب ، تطير عن رغيف المرقوق وتلتصق على شفتيه ، وشعر بيد قاسية تشد رأسه إلى أدنى . . إلى أدنى . . إلى أدنى . . فيسمع لفقرات رقبته صوتاً منتظماً ثقيلاً وهي تتكسر تحت ثقل رأسه . . وأحس أنه فعلاً لا يريد أن يموت ، وأعطته الفكرة دفقة أخرى من الحياة . . فاكتشف أن صوت تكسر فقرات رقبته هو صوت الرصاص الذي ينطلق من المدفع الرشاش ، وشعر بمواساة من نوع غريب ، مواساة تشبه تلك التي يراها الوالد في ولد عاش بعد مصرع أخيه ، وخرج من التنور لكنه شعر أنه لم يلمس الأرض بقدميه . وشيعته القرية كلها إلى مقره الأخير .