ذهبت إلى شلاّل, ولم أكن من قبل قد ذهبت إلى شلاّل. كنت أحب وكنت سعيدًا. بعد أن فقدت أحبّة رحلوا, رحت أنتظر النهاية دون خوف ولا دهشة. واستيقظ في قلب الشتاء ربيع, واجتزت جبالاً ومراعي وأنهارًا. رأيت جبالاً تكسوها الثلوج, وفي أعاليها ترتدي ثياب عرس بيضاء من الثلج. مواكب من تلك الأعراس لا تنتهي تمر أمام عيني. ورأيت الثلج في القمم البعيدة يبرق تحت شمس وانية بلون وردي ناعم, عندما نزلت من القطار في البلدة الصغيرة, كان هديره الهائل هناك يدعوني. طنينه يوجه خطوي, ونداؤه الآمر يحدوني. قادني الصوت عبر طرق متعرجة تخلو من الناس, وكانت هناك شمس ترقد كسلى في حضن سحب خفيفة بيضاء. لم أر نهرًا عنيفًا ولا سريعًا, بل مجرى من مياه خضراء ساكنة بلون الأشجار التي تحف بالشاطئين. لا تبدو لتلك المياه حركة إلاّ حين تصطدم بجنادل من صخور سوداء متتابعة. تترقرق أمواج هادئة فتصنع حول تلك الصخور فقاعات من زبد. لا شيء ينذر بانفجار أو بشلال سوى ذلك الصخب المدوي الذي يدعوني إلى أن أستمر مع المجرى في اتجاه صخرةٍ عاليةٍ تتوسط النهر كانت تشبه رأسًا بلا ملامح ينهض فوق صدر جبار, ولكن من وراء الصخرة لم يكن هناك غير جبل آخر بعيد مزروع بالأشجار. وكانت الجنادل تتتابع الآن على مسافات أقرب, والزبد الأبيض يتكاثر حولها ويالي في حبيبات فوارة: حين إبلغ تلك الصخرة يتجمد خطوي ويشهق الكون كله من حولي. يصبح النهر كله زبدًا موّارًا متدافعًا قبل أن تعلو قبة شاهقة من الماء يهوي النهر كله معها نحو الأسفل متلاطمًا وصارخًا ومدوّمًا وملوّنًا, وقوس قزح كامل يحف به واضحًا في تمامه ويرمي ألوان الطيف كلها على الشلال الذي يولد بغتة من ماء أخضر وزبد أبيض ليندفع إلى الأسفل في قباب صاخبة تتلون بهالات من اللون الأحمر واللون الأصفر, تتفتت في لحظة مولدها وتتعاقب جرّارة متدافعة لتصنع قوسًا ينأى عن حائط الصخور الرمادية الصلدة التي حطمها الشلال ليصنع في الأسفل تلك البحيرة الصغيرة التي يهوي الآن إليها, يتخللني الشلال بأصواته وألوانه. لم يكن سوانا ولم يكن غير الهدير الأبدي, وقد عدنا إلى لحظة الخلق قبل ملايين السنين عندما لم يكن هناك بشر ولا حيوان, عندما سحق النهر تلك الصخور التي تحبس مجراه ليتحرر شلالاً يبعث صرخة الصخر وصرخة الأرض لتلك النجوم والمجرات البعيدة التي انفصلت عنها, نداء الأرض لأن تعود إلى رحم الكون الذي فارقته. وكنت لحظتها والشلال واحدًا, لا نريد تلك العزلة والبعد, وكنت أهبط درجًا حجريًّا أمام الشلال, وحين وصلت هناك وعيني لا تفارق الماء المتدفق في مهرجان ألوانه وغنائه ربتت يدٌ على كتفي, كأني أريد أيضًا أن نصبح واحدًا أنا وهي والشلال والكون. كان رذاذ الماء الذي ينثره الشلال يضرب وجهها وشعرها, وكنت أشعر به أيضًا يغمر وجهي. ولما احتضنت ثوبها المبتل بيديّ المبللتين همست في صدري: نعم, ومن خلفها وهي بين ذراعيّ كانت دوامة الشلال تعصف بالبحيرة. كانت تنكسر وتتفتت حين تضرب السطح فتتصاعد منها مراوح متعاقبة من رذاذ فضي شفاف, كطواويس بيضاء تفرد ذيولها الناصعة وتطويها في لمح البصر. همست مرة أخرى في صدري: كنت أعرف أن هذا الشلال سيفتنك, هزت يدي وقالت: تكلم! وكنت أحتضنها بيدي وأحتضن الشلال بعينيّ وأنا أغمغم: