حينما تجتمع الحنكة السياسية مع الإبداع الأدبي ، تتولد الأيقونة التي تغير مجرى التاريخ ، ولا شك أن القصيبي كان يمثل تلك الأيقونة النادرة ، حين غادر ترك مكانة ومكانًا في قلوب كل من عرفوه أو تعاملوا معه من قريب أو بعيد ، إنه الأديب والمفكر والوزير الأسبق غازي القصيبي. هو غازي عبد الرحمن القصيبي ، شاعر من الطراز الرفيع ، ولد عام 1940م ، وقضى سنوات عمره الأولى بالإحساء ، ثم انتقل إلى المنامة بالبحرين ليتلقى تعليمه هناك والده هو الشيخ عبد الرحمن القصيبي تاجر اللؤلؤ المعروف . وبعدها حصل على درجة البكالوريوس في كلية الحقوق من جامعة القاهرة ، ثم حصل على درجة الماجستير في العلاقات الدولية من جامعة جنوب كاليفورنيا ، فدرس لنيل الدكتوراه من جامعة لندن . ولد القصيبي في جو مفعم بالكآبة فقد ماتت أمه بعد ولادته بأشهر قليلة ؛ وعلى الرغم من صرامة أبيه إلا أنه نشأ شاعرًا مرهف الحس ، عاد القصيبي إلى وطنه بعد رحلة الدراسة الثرية ثم عمل أستاذًا جامعيًا في جامعة الملك سعود ، فقد ظل عامًا كاملًا في مكتبة الكلية دون فرصة حقيقة للتدريس ، لالتحاقه بالعمل الجامعي بعد بداية العام الدراسة ، وفي السنة التالية تم ترشيحه كعضو في لجنة السلام الدولية ؛ وفي أوائل عام 1966م انتهت المهام التي كلفت بها اللجنة ، ليعود إلى أروقة الجامعة أملًا في التدريس ، وبالفعل درس بها سبع مواد مختلفة تتعلق بالإدارة والقانون ، ثم سافر إلى لندن لنيل درجة الدكتوراه ، وكتب رسالته عن حرب اليمن ، ثم عاد إلى مدينة الرياض عام 1971م ، ليكمل مشواره العملي ، واستطاع أن يصل إلى الوزارة بعدها بأربع سنوات فقط في عام 1975م . بعد عودة غازي القصيبي للعمل الجامعي عام 1971م ، بالإضافة إلى ظهوره في برنامج تليفزيوني أسبوعي يلقي الضوء على المستجدات في العلاقات الدولية ، وقد لعب هذا الظهور الإعلامي دورًا كبيرًا في ترسيخ اسم غازي القصيبي في ذاكرة المجتمع السعودي . وبعدها شارك كمستشار قانوني في مجموعة من اللجان الحكومية في وزارة الدفاع والطيران ، وأيضا وزارة المالية والاقتصاد ، وتقلد القصيبي منصب العمادة بكلية التجارة ، وأحدث بها الكثير من الإصلاحات والنشاطات التي أحدثت حينها صدى كبير ظهرًا جليًا على الطلاب . واشترط القصيبي في سابقة لم تحدث من قبل لأستاذ جامعي ، وهي ألا يتقلد منصب العمادة لأكثر من سنتين ، ليعود أستاذًا جامعيًا كما كان من قبل ، ويتنازل بإرادته عن منصب العمادة لغيره من الأستاذة الزملاء . وفي عام 1973م انتقل القصيبي من الحياة الأكاديمية إلى الخدمة العامة ، وعمل بإدارة مؤسسة السكة الحديدية ، ففي بعض المرات التقى بالملك فهد رحمة الله ولي العهد أنذاك ، الأمر الذي جعل الملك يدرك أنه أمام عقلية تنموية كبيرة ، وفي عام 1975م وجد القصيبي نفسه ضمن التشكيل الوزاري الجديد ، حيث عين وزيرًا للصناعة والكهرباء ، وفي عهده انتشرت الإنارة لتغزو منازل المملكة ، كما نشأت في عهده شركة سابك عملاقة البتروكيماويات . القصيبي من وزارة لأخرى ثم العفو : وبعد تولي الملك فهد مقاليد الحكم عينه كوزير للصحة ، فقد كان يقوم بحملات تفتيشية واسعة ، ومن الجدير بالذكر أن مشوار القصيبي لم يتوقف عند هذا الحد ؛ فقد عُين سفيرًا للمملكة في البحرين بناء على رغبته بعدها بشهر واحد فقط ، ثم انتقل للعمل بسفارة المملكة في بريطانيا ، وظل بها إحدى عشرة عامًا ، وأخيرًا وزارة العمل . ترجم القصيبي حبه للأدب والرواية في الكثير من دواوين الشعر والروايات التي جعلته من أشهر الأدباء في المملكة والعالم العربي ، أما عن رواياته فهناك شقة الحرية ، والتي يقال أنها نتاج لتجربته الواقعية بالقاهرة حينما كان يدرس بالجامعة ، وهناك أيضا روايات أخرى كالعصفورية ، والعودة سائحًا إلى كاليفورنيا ، ورجل جاء وذهب ، وكانت الجنية هي أخر رواياته. لم يقف القصيبي في إبداعه الأدبي عند الشعر والرواية ، فله العديد من المؤلفات الفكرية مثل كتاب التنمية ، والأسطورة ديانا والكتاب الذي حقق أعلى المبيعات ، ناهز السبعين عامًا في أغسطس 2010م بمستشفى الملك فيصل التخصصي ، بعد معاناة طويلة مع المرض ، ورقد بعيدًا عن عالمنا بجسده ، ولكنه ترك روحه تحلق بين صفحات الروايات والكتب التي أثرى بها العالم أجمع ، فلن ينسى الزمان رجلًا اسمه غازي القصيبي مهما مرت عليه من سنون ،