ويرجع في أصل نشأته إلى شعوب الشرق وعنهم أخذه الإغريق والرومان وظل سائدا في فرنسا حتى القرن الثاني عشر الميلادي وكانت الدعوى الجنائية في ظله ترفع مباشرة إلى القاضي دون أن يكون هناك قضاء خاص بالتحقيق يتولى تهيئة الدعوى أمام قضاء الحكم، فظهرت النيابة العامة باعتبارها سلطة اتهام كما ظهرت أيضا مرحلة التحقيق الاعدادي وأصبح للقاضي دور إيجابي في البحث عن الحقيقة بتمحيص الأدلة واستظهار مدى توافر الدلائل الكافية حول نسبة الجريمة للمتهم. ويمكن القول بأن تبني المشرع لمبدأ ثنائية التحقيق جاء نتيجة وإدراكا منه لأهمية بعض الجنح التي كان من النادر تصور إجراء تحقيق فيها كجرائم المخدرات والتزوير والنصب والتي يمكن أن تصل العقوبات الحبسية في بعضها إلى عشر سنوات، هذا بالإضافة إلى عمله على تفادي بعض الانتقادات التي كانت موجهة لظهير الإجراءات الانتقالية المؤرخ في 28 شتنبر 1974 خاصة فيما يتعلق بتقليص نطاق التحقيق الإعدادي . ولعل هذا الاهتمام بمؤسسة التحقيق ما هو إلا محطة من محطات أنسنة الدعوى الجنائية بما توفره من ضمانات للمتهم أثناء البحث في القضية عن وسائل الإثبات وتجاوزا للانتقادات الموجهة لمسطرة البحث التمهيدي خاصة فيما يتعلق بضمانات وحقوق المتهم . فأسندت مهمة التحقيـق الاعدادي لقاضي التحقيق الذي يعد إحدى الضمانات الهامة التي يحرص المشرع الإجرائي المغربي على توفيرها، يوم وقوع الجريمة إلى غاية صدور الحكم النهائي الحائز لقوة الشيء المقضي فيه، فقواعد هذه المسطرة هي التي تبين كيفية سير الدعوى الجنائية ابتداء من مرحلة التحقيقات التمهيدية التي تجريها الضابطة القضائية، حيث أن قانون المسطرة الجنائية هو الوسيلة الوحيدة لوضع قانون العقوبات موضع التنفيذ والتطبيق ومن هنا كان ارتباطا وثيقا بينهما. و لتحقيق هـاتين المصلحتين يلتزم كـل واحد منهـا بقواعد إجرائية تهدف كلها لتحقيق هدف واحد ألا وهو البحث عن الحقيقة. وإن كـان قانون المسطرة الجنائية و القانون الجنائي يتعامل مع أعز شيء يملكه الإنسان ألا وهو حريته فيقتضي لهذا القانون أن يكون مبسطا في إجراءاتـه وواضحا في نصوصه وسريعا في ملاحقة الواقعة الإجرامية و الكشف عنها و حماية البريء من إمكانية إدانته، على أساس أنه إذا كانت العادة قد جرت على أن طلباتها تهدف إلى إدانة المتهمين، فإنها إذا تفطنت إلى أن الإدانة تتعارض مع العدالة بسبب وجود أدلة على براءة المتهم، ويتوجب على النيابة العامة تحريك الدعوى العمومية بمجرد علمها بارتكاب الجريمة ضد الشخص المنسوبة إليه، انطلاقا من كون النيابة العامة وجدت للدفاع عن مصالح المجتمع ضد الظاهرة الإجرامية وليس للحكم على قيمة الأدلة المتوفرة، ولا يفرض عليها تحريك الدعوى العمومية للحكم على مدى قيمة الادلة المتوفرة. بالإضافة الى أن التحقيق القضائي هو الذي تقوم به جهات التحقيق تكملة للبحث الأولي أو التمهيدي الذي غالبا ما يسبق التحقيق القضائي والذي تتولاها الضابطة القضائية، وقد ترتكب الجريمة ولا يوجد بين يدي السلطات المختصة أدلة دامغة وفاصلة في نسبة الجريمة إلى شخص معين بذاته، وهنا يأتي دور النيابة العامة إذ تتدخل لتوجه الاتهام في حال وجود قرائن قوية تفيد وقوع الجريمة وتباشر الدعوى العمومية وفقا للقانون، فتتصرف فيها وفق التكييف الذي تراه مناسبا فقد تكون جنحة أو مخالفة أو جناية حسب درجة وجسامة الجريمة، وهنا يستدعي الأمر بحثا معمقا ودقيقا خاصة في المسائل الجنائية نظرا لخطورة الأفعال المرتكبة فيها، م.ج على أنه "يقوم قاضي التحقيق – وفقا للقانون – بجميع إجراءات التحقيق التي يراها صالحة للكشف عن الحقيقة". فبموجب نص هذه المادة يتمتع قاضي التحقيق بجميع الصلاحيات كسلطة توجيه الاتهام وإجراء استجوابات ومواجهات والانتقال للمعاينة وإجراء التفتيش واللجوء إلى الخبرات والإنابات القضائية كما يصدر أوامر قسرية ضد المتهمين كالأوامر بالقبض والإيداع والضبط والإحضار، ومسألة التصرف في الملف ليست سهلة بل تعتبر من المهام الصعبة التي يقوم بها المحقق لأنها تقوم على أسس منها قيام الدليل وكفايته ضد المتهم،