وأصحاب المواهب الخارقة كثيرا ما يدفعون الثمن في نفس الوقت الذي كان ينبغي أن يتلقوا فيه الجزاء والشكران. !! والصحابي الجليل أبو هريرة واحد من هؤلاء. فقد كان ذا موهبة خارقة في سعة الذاكرة وقوتها. ثم لا يكاد ينسى مما وعى كلمة ولا حرفا مهما تطاول العمر، !! من أجل هذا هيأته موهبته ليكون أكثر أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم حفظا لأحاديثه، وبالتالي أكثرهم رواية لها. فلما جاء عصر الوضّاعين الذين تخصصوا في الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، اتخذوا أبا هريرة غرضا مستغلين أسوأ استغلال سمعته العريضة في الرواية عن رسول الله عليه السلام موضع الارتياب والتساؤول. لولا تلك الجهود البارة والخارقة التي بذلها أبرار كبار نذور حياتهم وكرّسوها لخدمة الحديث النبوي ونفي كل زيف ودخيل عنه. هنالك نجا أبو هريرة رضي الله عنه من أخطبوط الأكاذيب والتلفيقات التي أراد المفسدون أن يتسللوا بها الى الاسلام عن طريقه، أو خطيب جمعة يقول تلك العبارة المأثورة: " عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. ". أقول: عندما تسمع هذا الاسم على هذه الصورة، وكثيرا جدّا في كتب الحديث، والسيرة والفقه والدين بصفة عامة، فاعلم أنك تلقى شخصية من أكثر شخصيات الصحابة اغراء بالصحبة والاصغاء لك أن ثروته من الأحاديث الرائعة، قلّ أن يوجد لها نظير. وهذه الثروة، والى التحليق بك، اذا كنت وثيق الايمان مرهف النفس، فدونك الآن وما تريد. !! ومن ساجد أمام حجارة مركومة، وهاجرت مسكينا. وكنت أجيرا لبسرة بنت غزوان بطعام بطني. وهأنذا وقد زوّجنيها الله، وجعل أبا هريرة اماما". ومنذ رأى النبي عليه الصلاة والسلام وبايعه لم يكد يفارقه قط الا في ساعات النوم. كانت طويلة عريضة، ** والفقهاء والدعاة والمعلمون كثيرون. لا يهتمون بالكتابة، بل انّ أوروبا نفسها كانت كذلك منذ عهد غير بعيد. وكان أكثر ملوكها وعلى رأسهم شارلمان أميّين لا يقرءون ولا يكتبون، مع أنهم في نفس الوقت كانوا على حظ كبير من الذكاء والمقدرة. نعود الى حديثنا لنرى أبا هريرة يدرك بفطرته حاجة المجتمع الجديد الذي يبنيه الاسلام الى من يحفظن تراثه وتعاليمه، كان هناك يومئذ من الصحابة كتّاب يكتبون ولكنهم قليلون، ثم ان بعضهم لا يملك من الفراغ ما يمكّنه من تسجيل كل ما ينطق به الرسول من حديث. عزم على أن يعوّض ما فاته، ثم انه يعرف من نفسه هذه الموهبة التي أنعم الله بها عليه، والتي زادت مضاء ورحابة وقوة، بدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم لصاحبها أن يبارك الله له فيها. ؟؟ أجل. ** ولم يكن أبو هريرة ممن يكتبون، ولكنه كان كما ذكرنا سريع الحفظ قوي الذاكرة. ولا تجارة تشغله، ومن ثمّ لم يكن يفارق الرسول في سفر ولا في حضر. وهكذا راح يكرّس نفسه ودقة ذاكرته لحفظ أحاديث رسول الله عليه الصلاة والسلام وتوجيهاته. راح أبو هريرة يحدث، ولقد ألقى أبوهريرة رضي الله عنه الضوء على هذه الظاهرة، وكانه يدفع عن نفسه مغبة تلك الشكوك التي ساورت بعض أصحابه فقال: انكم لتقولون أكثر أبو هريرة في حديثه عن النبي صلى الله عليه وسلم. وان أصحابي من الأنصار كانت تشغلهم أرضهم. واني كنت أميرا مسكينا، وأحفظ اذا نسوا. وان النبي صلى الله عليه وسلم حدثنا يوما فقال: من يبسط رداءه حتى يفرغ من حديثي ثم يقبضه اليه فلا ينسى شيئا كان قد سمعه مني. لولا آية في كتاب الله ما حدثتكم بشيء أبدا، أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون) هكذا يفسر أبو هريرة سر تفرّده بكثرة الرواية عن الرسول صلى الله عليه وسلم. وهو ثانيا كان يحمل ذاكرة قوية، ولا يعتاقه عائق. أي أرض قومه وأهله. على أن هذا النهي من أمير المؤمنين لا يشكل اتهاما لأبي هريرة، بل هو دعم لنظرية كان عمر يتبنّاها ويؤكدها، وقاموس الدين، " اشتغلوا بالقرآن، ويقول: " أقلوا الرواية عن رسول الله الا فيما يعمل به". وحين أرسل أبو موسى الأشعري الى العراق قال له: اما الأحاديث فليس يضمن عمر أن تحرّف أو تزوّر، والنيل من الاسلام. ولكنه أيضا كان واثقا من نفسه ومن أمانته، وهكذا. لم يكن يجد فرصة لافراغ ما في صدره من حديث سنعه ووعاه الا حدّث وقال. على أن هناك سببا هامّا، كان له دور في اثارة المتاعب حول أبي هريرة لكثرة تحدثه وحديثه. ** فدعاه اليه وأجلسه معه، وطلب منه أن يحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، في حين أجلس كاتبه وراء حجاب، وبعد مرور عام، أخذ يستقرئه نفس الأحاديث التي كان كاتبه قد سطرها، وكان يقول عن نفسه: " ما من أحد من أصحاب رسول الله أكثر حديثا عنه مني، وقال عنه الامام الشافعي أيضا: وقال البخاري رضي الله عنه: " روي عن أبو هريرة مدرسة كبيرة يكتب لها البقاء والخلود. وكان أبو هريرة رضي الله عنه من العابدين الأوّابين، وتقوم ابنته ثلثله. وهكذا لا تمر من الليل ساعة الا وفي بيت أبي هريرة عبادة وذكر وصلاة!! وانه ليحدثنا: كيف كان الجوع يعض أمعاءه فيشدّ على بطمه حجرا ويعتصر كبده بيديه، ليس ذلك وحسب، بل كلنت تؤذي ابنها في رسول الله صلى الله عليه وسلم وتذكره بسوء. فانفضّ عنها باكيا محزونا، وذهب الى مسجد الرسول. ".. فقلت: يا رسول الله، كنت أدعو أم أبي هريرة الى الاسلام فتأبى علي، واني دعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره، فادع الله أن يهدي أم أبا هريرةالى الاسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اهد أم أبي هريرة. وسمعت خضخضة ماء، وعجلت عن خمارها وخرجت وهي تقول: أشهد أن لا اله الا الله، وأِهد أن محمدا عبده ورسوله. كما بكيت من الحزن، فقد أجاب الله دعوتك. قد هدى أم أبي هريرة الى الاسلام. ثم قلت يا رسول الله: ادع الله أن يحبّبني وأمي الى المؤمنين والمؤمنات. لا يتخلف عن غزوة ولا عن طاعة. وعمر كما نعلم شديد المحاسبة لولاته. اذا ولّى أحدهم وهو يملك ثوبين، دنيا أخرى. !! من مصادره الحلال، وعلم عمر فدعاه الى المدينة. وعطايا تلاحقت. !! ودفع أبو هريرة المال الى عمر ثم رفع يديه الى السماء وقال: اللهم اغفر لأمير المؤمنين". ثم قال: وأخاف أن أقضي بغير علم وذات يوم اشتد شوقه الى لقاء الله. وبينما كان عوّاده يدعون له بالشفاء من مرضه، وعن ثماني وسبعين سنة مات في العام التاسع والخمسين للهجرة. وبينما كان مشيعوه عائدين من جنازته، كانت ألسنتهم ترتل الكثير من الأحاديث التي حفظها لهم عن رسولهم الكريم. ؟؟ لقد كان اسمه في الجاهلية عبد شمس، وكانت تلازمه كظله.