يرى أدونيس في الفصل الأول بأن الشعر الجاهلي يتميز بخاصية الشفوية، بل اعتمد في نقله على الذاكرة والحفظ والرواية من جيل إلى آخر. فالشعر الجاهلي شفوي قائم على ثقافة صوتية وسماعية. كما نشأ الشعر الجاهلي في بدايته نشيدا مسموعا لامكتوبا، مرتبطا بالغناء والإنشاد والموسيقى التي كانت تعبر عن ذاتية الشاعر وانفعالاته الوجدانية النابضة المتداخلة مع مشاعر الجماعة. وبما أن الشعر سماعي في الشعرية الجاهلية، إذ كان يحرص على تجويد شعره و على تحسين قراءته الإنشادية من أجل التأثير على السامع وجذبه وإشراكه في معاناته وتجربته التي يتداخل فيها ماهوذاتي وجماعي من خلال تصوير الحياة الجاهلية بكل قسماتها وأفراحها وأتراحها وانتصاراتها الحربية وهزائمها الدامية. لأن الأذن هي التي تحكم على القصيدة وتقومها سلبا أو إيجابا. وكان الشعر الجاهلي يبلغ وينقل إلى الآخرين عن طريق الإنشاد والذاكرة. وقد أشار أبو الفرج الأصفهاني صاحب كتاب الأغاني إلى صلة الشعر العربي الجاهلي بالغناء والموسيقى. وإذا انتقلنا إلى الإيقاع في الشعر الجاهلي، ومن يتأمل النقد العربي القديم سيجده مبنيا على الشعرية الشفوية الجاهلية كما يبدو ذلك واضحا في حركة التقنين التي مست جانب النحو والعروض وقضية السماع. أي إن النقد العربي تبنى معايير الشعر الجاهلي باعتبارها قواعد ثابتة وأصولا لا ينبغي انتهاكها كما يمثل ذلك عمود الشعر العربي للمرزوقي الذي لم يشر إليه أدونيس بشكل واضح . و ستدفع هذه المثاقفة العلماء للتفكير في التقعيد والتقنين للحفاظ على هوية الشعر العربي وهوية الشاعر وموسيقى الشعر. ووضعت المعاجم اللغوية(معجم العين) من قبل الخليل بن أحمد الفراهيدي . وقد قلنا سابقا إن الشعرية القديمة انبنت على السماع والتأثير على المتلقي. ويعني هذا أن الشاعر كان يراعي أفق انتظار السامع والعرف المشترك والذوق الشائع العام. لذلك صارت الصياغة الشعرية أهم من الأفكار والمعاني والمقول. وأساس هذا الفصل بين اللفظ والمعنى هو الشعر الجاهلي الذي كان يهتم كثيرا بالصياغة والتجويد الشعري من أجل إرضاء السامع وتلبية جاجياته الوجدانية والعقلية والحركية عن طريق التطريب والتأثير الموسيقي الناتج عن صرامة الوزن ووحدة الروي والقافية. وهكذا أصبح الشعر الجاهلي المصدر الأول للشعر العربي قديمه وجديده ومرتكزا للنقد العربي القديم الذي وضع معايير ثابتة الأصول من أجل تقنين الشعر للحفاظ عليه من الخلط واللحن والتهجين. ويطرح أدونيس عدة أسباب قد تكون وراء هذا التقعيد الذي قيد حركية الشعر العربي وطوقها بقيود الثبات والتأصيل مما أثر سلبا على اللغة الشعرية وعفويتها وروح إبداعيتها التخييلية وطبيعة الكتابة الشعرية التي تخالف جذريا خصائص الشعرية الشفوية. ومن هذه الأسباب: الموانع الدينية واللغوية والقومية والرغبة في الحفاظ على الهوية والخصوصية العربية و حماية هوية الشاعر العربي. فما مقاييس الخليل العروضية إلا مقاييس أتت لتقيد الإبداع الشعري في نظر أدونيس . وهكذا نستنتج أن النقد العربي القديم كون مقوماته النظرية والتطبيقية اعتمادا على الشعرية الشفوية الجاهلية، وبعد ذلك أصبحت قواعد صارمة ومطلقة يحتكم إليها النقاد في تقويم شعر المحدثين. ونتج عن هذا رؤية واحدة تجاه الشعر وخاصة إلى الشعر الجاهلي، لكن اليوم هناك منظورات نقدية متعددة ومختلفة إلى الشعر الجاهلي . ويعني هذا أن التقنين أساء إلى النقد العربي والشعر العربي معا؛ لأنه لم يصغ إلى الحرية الشعرية والاختلاف الإبداعي. ونقصا.