وفيما فرض التطور الاجتماعي على المضامين التشريعية والطقوسية أن تتعدّد بتعدد الديانات، وتتغيّر ضمن الديانة الواحدة بتغيّر الأزمان، بل وتتلاشى كلياً في بعض المراحل الحداثية داخل سياقاتها التوحيدية الخاصة، فرض الجوهر الأصلي للدين في ذاته داخل السياقات التوحيدية المتعددة، أي إنّ التديّن يختلف بحسب الدرجة فنجد التديّن الشديد، ومن ناحية أخرى فإن الشعائر والطقوس المجرّدة من كل اعتقاد ديني ، ماعدا ما ذكره “محمد عاطف غيث “من أن التديُّن هو”الاهتمام بالأنشطة الدينية والمشاركة فيها. أو هو الإشارة إلى مجموع السلوك والاتجاهات التي يحكم عليها باعتبارها دينية في جماعة أو مجتمع” ثم يستدرك صعوبة وضع تعريف دقيق للتديّن لينطلق مما انتهى إليه “جيمس فريزر” في حديثه عن تعريف الدين – فيقول “إنه من العسير وضع تعريف عام للتديّن طالما أن الأديان المختلفة تؤكد على سلوك متباين وقيم متنوعة. كما عُرّف التديُّن في الغرب على أنّه: بدأ القياس العلمي للتديّن بمسميات بسيطة عن الانتماء مثل الكاثوليك و البروتستانت ، ولقد اعتبرت هذه مقاييس جامدة حيث أنها تتجاهل المدى الواسع للتنوع في سمات التديّن وممارساته لدى هذه المجموعات العريضة [8]. على الرغم من توافر الاختبارات النفسية التي تقيس الجوانب المعرفية والوجدانية والممارساتية في السلوك الإنساني، صعوبة أن يكون الباحث موضوعياً بدرجة عالية في هذا المجال المشبع بالمعتقدات والوجدانيات، صعوبة إلمام اللازم من قبل الباحث بالعلوم النفسية والعلوم الدينية في آن واحد، انخفاض مستوى الوعي الديني لدى كثير من العاملين في مجالات الصحة النفسية مما يؤدي للعزوف عن دراسة الظاهرة الدينية والسلوك التديّني في مجال الصحة النفسية. -صعوبات منهجية في طريق القياس: لا يخلو الأمر من صعوبات منهجية حقيقية في طريق قياس السلوك التديّني نذكر منها: كون الخبرة الدينية شديدة الخصوصية ولها أبعاد داخلية عديدة، وكذلك الاختلافات الهائلة بين مختلف الأديان وحتى بين مختلف الطوائف في أصحاب الدين الواحد من ناحية المفاهيم والمعتقدات والممارسات فإنه يبدو من الصعوبة بمكان تصميم مقياس عالمي موحّد، بل إنه من الصعوبة أن تطغى عدّة مقاييس مساحة واسعة من العالم، صعوبة قياس العامل الأهم في كل الديانات وهو الإيمان وهو اعتقاد قلبي وله جوانب وجدانية متشعّبة، وتعدّد أبعاد الخبرة الدينية مما يتطلّب مقياساً أو مقاييس تغطي كل هذه البعاد مع إعطاء كل بعد الأهمية المناسبة له. -التداخل بين الممارسات الدينية والبيئية: عند التعامل مع الظاهرة الدينية والسلوك التديّني المترتّب عليها فإننا لا نتعامل مع “الدين” في ذاته، وإنما نتعامل مع نتاج تفاعلات عديدة بين المعتقدات والممارسات الدينية وبين المفاهيم والعادات والأعراف البيئية، وأحياناً نجد الأولى سائدة ويكون ذلك مؤشراً على الاتجاه بقوة نحو المفاهيم والعادات والأعراف الاجتماعية. والمطلوب منه أن يقوم بعملية تنقية وتنقيح حتى يتأكد أنه يتعامل مع السلوك التديّني فعلاً، قياس أبعاد التديّن: وبالفعل فمسألة قياس التديّن تضعنا أمام “موضوع” متعدّد الأبعاد، الإيمان بنظام من التعاليم والسلوكيات الأخلاقية أو الاجتماعية…وبالخصوص تخصيص سلّم لكل بعد . الاستمارة أو تقنية الاستجواب. ولاستئناف الحديث عن أبعاد التديُّن ، التي نشرع في البحث عنها بغرض قياس ظاهرة التديّن، يكون العمل استناداً إلى السلّم، التي تقيس (أو بالأحرى التي نقدّر أنّها تقيس) الأبعاد التي نرمي إلى اختبارها. -تجميع مجموعات الأصناف المتلائمة مع البعد الذي نرنو قياسه. جرت الدراسة على الممارسة الدينية في الثلاثين السنة الماضية وتتلخّص العناصر التي تدخل ضمن تلك الخلاصة في النقاط التالية: -وجود سلطة دينية مكلّفة بضبط الانسجام بين المواقف العقدية والسلوكيات الطقوسية. مع الاحتفاء بها في أماكن مقدّسة محدّدة. -ثنائية بين من يتولّى تسيير فضاءات الممارسة الدينية وبين من له دور المشاركة في أداء تلك الطقوس، كيف تشكّل الممارسة الدينية مؤشراً على الانتماء…أما الأبعاد التي ينبغي قياسها فتُضبط على الشكل التالي: التي تقدّر السلطة الدينية أنها رسمية ومفروضة… يمكن أن يعبّر إلى جانب وظيفته الأساسية والجوهرية المتمثّلة في إظهار نوع من التجربة والاعتقاد الديني، عن الخلاص (إن كان ثمّة حديث عن ذلك السياق الديني) ، فالاعتقاد ضمن خط عام، وبهذا المعنى يمكن القول إن الاعتقادات هي صياغات-صيغت عبر كلام- يُبدي نحوها الفرد أو المجموعة رضى تاماً، تعدّ في كافة الحالات صادقة وجليّة وفي منأى عن التشكيك. شكل رقم (1) يلّخص العلامات المباشرة وغير المباشرة للاعتقاد الديني “التجربة الدينية” مصطلح يستعمل في حقول الإلهيات، كلها حالات لا تقبل التبيين ولا الإيضاح، الادعاء هو أن الظواهر النفسية والمعنوية لا تقبل التفسير إلا بافتراض موجود ما فوق البشر تطلق عليه أسماء متعدّدة منها “الله”، هذه الصنوف أو الأنواع الثلاثة تسمى تجربة؛ أما صفة الدينية الملحقة بهذه التجارب فمردّها حسب الادعاء إلى كونها تشهد بالصحة لبعض القضايا الواردة في النصوص المقدسّة للأديان المختلفة. -تنويعات جوهرية: تقيس أنواع العواطف التي تثيرها تجربة المقدّس في الأفراد، -تنويعات إسمية: ترتّب المفاهيم التي ينسبها المستجوبون إلى الواقع “المغاير كليّاً” الذي يختبرونه. مقارنة بغيرها من الحالات أو الأوضاع غير العاديّة أو متماثلة من النوع نفسه. وفي كل الحالات تبدو التجربة الدينية في أعين الدارسين تجربة ثريّة نموذجية، ومن الأبعاد التي جرى اختبارها للتجربة الدينية: أ- تمنح التجربة الدينية حياتي هدفاً لم أجربّه في غيابها. ت- يمنحني الدين إحساساً بالأمان أمام الموت. فمظاهر الدين المتعددة تجعل إدماجه واعتباره ظاهرة اجتماعية صرفة هو مجازفة علمية. فهو قد يكون ظاهرة نفسية حينما يكون في المستوى الأول ويكون ظاهرة فكرية فلسفية حينما يكون تصوّرا واعتقاداً…إلخ[21]. فهي دوماً تتأثر بواقع حياة المتديّنين وغير المتدينين، إن هذه التجربة هي تجربة الغنى والشفاء من كل الأوجاع البشرية، إن التجربة الدينية تتصل بمجمل وجود الإنسان. على أن النقطة المهمة هي أن ما يلتزم به عامة الناس من مفاهيم وقيم وأحكام عبادية وشعائر، المؤشرات المباشرة -تجربة ذاتية لقوة خارقة: أ- تولّد مشاعر امتلاء، شكل رقم(2) يبيّن المؤشرات المباشرة وغير المباشرة للتجربة الدينية من خلال دورة تعليمية مدفوعة الأجر، يمكن القول أن لهذه الدراسات عن التجربة الدينية يعود بالأساس إلى نداء “الجسدانية” إلى عشق تجربة المقدّس. لكن هناك بعداً جماعياً غنياً للتجربة الدينية، وما يحصل من تعامل المتديّن مع سواه يندرج أيضاً تحت هذا النوع من التجربة الدينية الجماعية. وقد وجد “جيمس” نفسه نوعاً من الوحدة بين التجارب الدينية، نتيجة اقتناع شخصي يحصل في أعماق الذات أو في الضمير. تنتمي إلى الدين الخارجي أو دين المؤسسات، هكذا نستطيع القول بأن التجربة الدينية ذات بعدين: فردي وجماعي، وأن كلا البعدين يكمل أحدهما الآخر، من هنا يمكن تعديل التعريف الذي اقترحه “جيمس” للدين ليصير كالآتي: الدين هو ما يفعله الأفراد في وحدتهم في ما بينهم، حسب تحليل “جيمس” بعداً مثالياً ومنقذاً للتجربة الدينية، فالواقع أن لكل من البعدين الفردي والجماعي انحرافات كثيرة ممكنة. لوقعنا فيه على الكثير من التجارب التي تجعل من الدين ممارسة غريبة في حياة الإنسان، أقرب ما تكون إلى المرض النفسي الحادّ. ولا تقتصر هذه الظواهر على دين واحد، بل نجدها في كل الأديان وهذا يحيل تفسيرها، أو على الأقل تفسير عدد كبير منها، لقد أرسيت أنماط ثلاثة من التحليل التجريبي من قبل علم الاجتماع النوعي: – التحليل الظواهري الذي يرنو إلى كشف الافتراضات الإيديولوجية أو نظم القيم المحيطة بعملية التفاعل. – المنهج الاجتماعي الذي يهتم بالشكل الذي ينظّم به الأفراد تدّفق المعلومات الإخبارية في الحياة اليومية. أو في تجربة شعائرية لحركة دينية). ملاحظة قيّمة وهي إن اردنا الإحاطة بحقيقة أية ظاهرة اجتماعية (في حالتنا تحت تسمية السلوكيات الدينية)، أساساً في كون التقنّيتين تبحثان لتجميع المعلومات القيمة ( ووقتياً خالية من التعميم) على مجموعة من الأفراد تشكّل منطقياً فرعاً معتبراً من الواقعة المزمع دراستها. فإن أردنا مثلاً الإلمام بالتفاعل بين رجال الدين والمدنيين في سياق اجتماعي ديني محدّد، المتوجّه إلى قياس درجة التفاهم المتبادل أو الثقة، كيفية توزّع الأدوار الاجتماعية وغيرها داخل المجموعة المعاينة، كيف تنظر المجموعة إلى ذاتها مقابل العالم الخارجي، بمعنى يمكن مراقبة الحدث نفسه. تطرح عملية قياس التديّن صعوبات منهجية على قدر كبير من الأهمية، وبالتالي لا بد من تحديد طرائق قياس التديّن بطريقة كمية وإحصائية قابلة للقياس. هو ما دعا عدد كبير من الباحثين إلى تحديد أبعاد للتديّن وتصنيفه إلى أنماط كالممارسة الدينية والاعتقاد الديني والتجربة الدينية والعاطفة الدينية…كما أنّه ما دفعهم لتحييد الدين عن التديّن وتمييزهما عن بعضهما نظراً لحساسية هذا الأمر في المجتمعات كافة. فالدين هو الثابت والجامع لمجموعة من البشر بشكل مقدّس أما التديّن فهو ما ينتهجه الفرد عند تطبيق دينه لذا فهو يتبع في أحيان كثيرة ذاتية الفرد كما يرجع لعوامل كثيرة نفسية واجتماعية تؤثّر على المتديّنين في طريقة ممارستهم لدينهم. ومن هنا برزت فكرة اللجوء إلى المنهج البيوغرافي (منهج السير) لتجميع المعنى الذاتي للسلوك الديني لدى مجموعة من الأفراد وتنقيب تواريخهم ودورات حياتهم. فحساسية دراسة ظاهرة التديّن في المجتمعات عامّة كثيراً ما تؤدي إلى صراعات تستدعي إلمام الباحث بالعلوم النفسية والعلوم الدينية في آن واحد، نظراً لما تلعبه من دور بارز في حياة الأفراد النفسية بالقدر الذي تؤثّر فيه على صحّتهم النفسية. كما أنّ تأثيرات البيئة على الأفراد تفرض نفسها كمؤّشر على الاتجاه بقوة نحو المفاهيم والعادات والأعراف الاجتماعية. لذا فالباحث يجد نفسه أمام تداخلات هائلة عند دراسته لظاهرة التديّن وقياسها. فطبيعة دراسة ظاهرة التديّن بحد ذاتها صعبة وتزداد صعوبة عندما يكون الهدف قياسها وبدقّة. مما يجعله طريقاً منهجيّاً جليّاً في العلوم الاجتماعية. وبالرغم من الصعوبات التي توفقنا عندها سابقاً في قياس التديّن، خاصّة من خلال انطلاق موجة من الأبحاث الإمبيريقية الذي جعلت من البحث الديني أحد أهم الميادين في الدراسات النفسية والاجتماعية خاصّة من خلال بناء مقاييس دينية على مختلف المستويات والأبعاد والتي أكّدت نتائجها على أهمية مفهوم التديّن،