كل إنسان في هذه الحياة قادر — إلى حد ما — أن يصنع حياته؛ باسمة أو عابسة … نعم إن للوراثة والبيئة دخلًا في تحديد حياته، فهو — إلى درجة كبيرة — ذكي أو غني بالوراثة، قوي الأعصاب أو ضعيفها بالوراثة، وهو ناشئ في وسط فقير أو غني بالبيئة، معتاد عاداتٍ حسنة أو سيئة بالبيئة وهكذا، ولكن إرادة الإنسان وعزمه وهمته وتربيته نفسه قادرةٌ قدرة كبيرة على التغلب على عقبات الوراثة والبيئة. نعم إنك لا تقدر أن تكون في الذكاء قوة مائة إذا خُلقت وذكاؤك قوة عشرين، ولكنك قادر أن تستعمل ذكاءك المحدود خير استعمال حتى يفيد فائدة أكثر ممن ذكاؤه مائة إذا أُهمل، وكانت قوته عشرين شمعة كان خيرًا من مصباح قوته خمسون إذا علته الأتربة وأُهمل شأنه؛ ونعم إنك لا تقدر أن تساير أبناء الأغنياء في ملبسهم ومأكلهم ومركبهم، ولكنك تستطيع أن تعيش عيشةً نظيفةً وصحية بدخلك القليل حتى تفوق الغنيَّ في مظهره البراق إذا لم يَسِرْ على قوانين العقل والصحة،إذن فالوراثة والبيئة لا تعوقان الإنسان عن إسعاد حياته إذا مُنح الهمة وقوة الإرادة والتفكير الصحيح، ومجال القول في ذلك فسيح، وأن تتوقع الخير في مستقبلك، ولا تقطب وجهك زاعمًا أن الخير مُنِحَهُ غيرك وليس منه نصيب، ووسِّع أفقك واعتقد أن العناية الإلهية لن تحرمك الخير في مستقبلك، فاعتقادك أن لا مستقبل لك ولا أمل في حياتك، وأن لا خير ينتظرك سُمٌّ قاتل يضني الإنسان حتى يميته — وعلى العكس من ذلك توقعه الخير وأمله في الحياة يوسع أفقه، ويحمله على أن يوسع معارفه في الحياة، وعلى الجد فيما اختاره لنفسه من صنوف العيش، وعلى استعمال المادة التي في يده خير استعمال. فالعالم لا يحتاج إلى النوابغ وحدهم، والنجاح ليس مقصورًا على النابغين وحدهم، وبذرة الجوافة ليس من حقها أن تطمح في أن تكون شجرة مانجو أو شجرة تفاح، ولكن ما ضرَّها أن تكون شجرة جوافة حلوة لذيذة، والحياة تتطلب الجوافة كما تتطلب المانجو والتفاح؟ وعلى الإتيان بالعجائب من غير مشقة، وعلى قلب التراب ذهبًا بعصا سحرية، ولكن كلُّ هذه أفكار عائقة عن العمل وعن النجاح. ولكن مَن نجح منهم إنما نجح؛ لأنه بعد أن بدأ حياته أحس أن في يده مصباحًا من نفسه يضيء له الطريق ويستحثه على السير، وكلما تقدم إلى الأمام خطوةً استحثه عزمه على متابعة الخُطى في غير خوف ولا ملل، ولم يتعجل النجاح، واستمر في طريقه حتى يبلغ الغاية.وخيرُ وسيلةٍ للنجاح في الحياة أن يكون للشاب مَثلٌ أعلى عظيم يطمح إليه وينشده، ويضعه دائمًا نُصب عينيه، ويسعى دائمًا في الوصول إليه: أن يكون عالمًا عظيمًا أو تاجرًا عظيمًا أو صانعًا عظيمًا أو سياسيًّا عظيمًا، فمَن قنع بالدون لم يصل إلا إلى الدون. ونحن نشاهد في حياتنا العادية أن من عزمَ أن يسير ميلًا واحدًا أحسَّ التعب عند الفراغ منه، ولكن مَن عزم أن يسير خمسة أميال قطع ميلًا وميلين وثلاثة من غير تعب؛ لأن غرضه أوسع وهمته المدخرة أكبر.إنا نشاهد أن كل مَن رسم لنفسه غرضًا يسعى إليه، وأخلص له واستوحاه واجتهد في الوصول إليه نجح في حياته، ولو لم يدرك الغاية كلها أدرك جانبًا عظيمًا منها. إلى غير ذلك من أسباب، ولا تزال هذه الأحجار تتراكم حتى يحجب السور الشمس عن أعيننا، فلا نرى خيرًا ولا نرى غاية.ليس الإنسان إلا بذرة أو نبتة تسعى دائمًا للخروج إلى الشمس والهواء الطلق، وثمرتها إنما تثمر بحظها من هذين، وبذرة الإنسان يُقضى عليها بهذه العوائق التي ذكرنا فلا تثمر.إن هذا المثل الأعلى الذي يجب أن ينشده الشباب يجب ألَّا يكون المال وحده لو من طريق التحايل والمكر، فتلك وسيلة من الوسائل الحقيرة، والنجاح المؤسس على هذا نجاح حقير رخيص؛ إنما النجاح الحق أن يجمع — إلى نجاحه في عمله — نبله في خلقه وصدقه وأمانته في نفسه وعطفه وتسامحه وبره بالضعفاء وذوي الحاجة، فلم يُخلق الناس حوله ليكونوا مادة لاستغلاله، إنما خُلقوا ليتبادل معهم المنافع والخير العام.إن مما يُؤسَف له أن نرى الآن موجةً تطغى على الناس أن يقيسوا نجاح الشخص بما حصَّله من مال؛ فالموظف مقدار نجاحه الدرجة التي نالها، ووصوله إلى هذا المال، أبالملق والخداع والحيل وقول الزور والبهتان وضياع المبادئ أم بغير ذلك؟ أبالتلاعب في التجارة واستغلال الضعفاء، وانتهاز الفرص أم بغير ذلك؟ إن كان الأول فليس في الحقيق نجاحًا، إنما هو نجاح إذا سمينا السارق لا يُضبط بجريمته ناجحًا. فالحصول على المال والدرجة وحده لا يكفي ما لم نقف طويلًا ونتساءل عن الوسائل التي استخدمها في الحصول على غرضه؛ أو وضيعة؟ فلا نجاح. بل إن الشخص إذا رسم مثله الأعلى في النجاح مع الأخلاق، وسار عليها ثم لم يصل إلى غايته ولم يدرك بُغيته خيرٌ ألف مرة للمجتمع ممن جعل كل غرضه المال مهما تخطى في سبيل ذلك رقاب الناس.ليس الإنسان حيوانًا آكلًا شاربًا فحسب حتى يقدِّر نجاحه بمقدار ما يُحصِّل من مال يأكل به أفخم الأكل، ويشرب به أعذب الشراب، إنما الإنسان فوق ذلك إنسان يستمتع بحب الخير، وإدراك جمال الدنيا وجمال الأفعال ويشعر بالسمو.إن الغِنَى إذا طُلب يجب أن يُطلب بجانبه غِنى النفس، وتسليحها بحب الخير والعمل للخير. أما غنى المال فغنًى بائد.لستُ أريد أن أثبط الشباب عن الرغبة في النجاح المادي من رغبةٍ في وظيفةٍ راقية، ويجب أن يكون، والميل إلى الكسل والخمول، والارتكان على الحظ والقدر. إنما الذي نريد أن نقوله إن ذلك لا يكفي ما لم يُدعم بالخلق، ولا يصح مطلقًا أن تطغى الرغبة في المال على الرغبة في الخلق والسمو النفسي ومحاسبة النفس على الوسائل التي نحصِّل بها المال.ومن أهم الأمور في تكوين حياتك وصنعها ثقتُك بنفسك، واعتقادك فيها أنها صالحة للحياة قابلة للنجاح. وبعض الناس مصابون بهذا المرض، وإما لأنهم ليسوا من بيوت كبيرة، وهذا أكبر خطأ يرتكبونه نحو أنفسهم — ومِن المسئولين عن هذا خطباء المساجد والوعَّاظ؛ فإنهم يجتهدون أن يحقر الإنسان من نفسه ويعتقد أنه لا شيء، مع أن الأمة لا تحيا ولا تتقدم إلا إذا وثق أفرادها بأنفسهم. والقرآن نفسه بَثَّ روح الثقة بالنفس والاعتزاز بالأمة فقال: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ.وضعفُ الثقة بالنفس يقتل طموحها ويقتل استقلالها ويُفقدها حياتها. ومِن عادتهم أن يحترموا من احترم نفسه، ويثقوا بمن وثق بها ويعاملوا معاملة الإنسان من تذكر دائمًا أنه إنسان، غاية الأمر أن الإنسان كثيرًا ما يخلط بين الثقة بالنفس واحترامها وبين الكِبْر والغرور. الثقة بالنفس اعتقادك بقدرتك على ما تتحمله من أعباء وما تلتزمه من واجب، ومعرفتك الصحيحة بنفسك ونواحيها الجيدة، والمطالبة بالجزاء من غير عمل، وخداع الناس بالمظاهر الكاذبة من غير أن تكون لك قيمة حقيقية. وضد أعمال النذالة.بعد أن يكون لك مَثل أعلى تنشده وتعمل للوصول إليه، اجتهد أن تبسم للحياة؛ والابتسامُ للحياة يضيئها، فإن رأيتَ عابسًا فلا بد أن يكون هناك من أخطأ في تربيته من آبائه أو مدرسيه. وقد أرتنا التجربة أن الفرحين المستبشرين الباسمين للحياة خيرُ الناس صحةً، وأقدرهم على الجد في العمل وأقربهم إلى النجاح وأكثرهم استفادةً وسعادةً مما في يدهم ولو قليلًا. ومن أكبر النعم على الإنسان أن يعتاد النظرَ إلى الجانب المشرق في الحياة لا الجانب الظلم منها. إن العمل الشاق العسير يخف حمله بالطبع الراضي والنفس الفرحة. ولكني في الجانب المشمس من الحياة. إن الباسم للحياة يرى الجانب المشمس منها، فعوِّد نفسك هذه العادة، وانثر الأزهار باسمًا على كل من عاملته، ولا تنظر للحياة من خلال نظارة معتمة.توسيع أفقك وتحديد مَثِلك عاليًا وطموحك أن تكون عظيمًا، ثم ثقتك بنفسك واحترامك لها في غير كبرياء وغرور، وما أحسنه من نسيج، إنك إن فعلت كان ذلك خيرًا لك ولأمتك،