وقد شكلت هذه الوضعية معضلة معرفية حقيقة حجبت كثيراً من الزوايا القضايا المهمة في تفكير ڤيبر وفي نظرياته السوسيولوجية المهمة” لوران فلوي 1-مقدمة: يعدّ المفكر الألماني ماكس ڤيبر (1864-1920) أحد أهم رواد علم الاجتماع المثيرين للجدل وأحد أبرز مؤسسيه الميامين، ولد ماكس ڤيبر (Max Weber) (ماكسيميليان كارل إميل فيبر) في مدينة ايرفيرت (Erfert) بألمانيا في 21 إبريل عام 1864، وقد شكل الوسط الاجتماعي البرجوازي المميز الذي ترعرع فيه ڤيبر الحاضن الأساسي لنشأته ڤيبر وإبداعه الفكري وانبثاق عبقريته التي اتسمت إلى حد كبير بالطابع الموسوعي [1]. واستطاع في نهاية تحصيله العلمي أن يبدأ سيرة أكاديمية مفعمة بالعطاء إلى أن أصبح واحداً من كبار علماء الاقتصاد والتاريخ والمجتمع، ويصنف على أنه أحد كبار مؤسسي علم الاجتماع، ولا سيما علم الاجتماع الإداري وعلم الاجتماع الديني. وحصل على درجة الأستاذية عن أطروحته الموسومة «التاريخ الروماني الزراعي وأهميته للقانون الخاص والعام» في عام 1892. ولم يطل به المقام حتى عُين أستاذاً للاقتصاد السياسي في جامعة فرايبورغ في عام 1894. وتوفي في 14 يونيو 1920 في مدينة ميونيخ عن عمر يناهز 56 عاماً متأثراً بمرض الالتهاب الرئوي تاركاً وراء إرثاً فكرياً مرجعياً خصيباً في مجال العلوم الإنسانية. وقد تجلى هذا الإنتاج الفكري الملهم في عدد كبير من الأعمال العلمية التي ما زالت تشكل مصد إلهام للمفكرين والباحثين والدارسين في العلوم الإنسانية. 1923)، ومقالات في علم الاجتماع (Essays in Sociology )[4]، ومنهجية العلوم الاجتماعية (The Methodology of the Social Sciences)[5]، ورجل العلم ورجل السياسية (Man of science and Man of politic) والسياسة في الحرب العالمية (Politics in world war)، والديانة في الصين (The Religion of China) [9] وأخيراً كتاب نداء العلم أو العلم بوصفة رسالة (The Vocation Lectures: Science As a Vocation) [10]. وتدل هذه الأعمال آنفة الذكر على إسهامات ڤيبر في مجال العلوم الإنسانية، ولا سيما في مجالات المجتمع والاقتصاد والدين والإدارة والسياسة. وأنه خلال هذه الفترة الزمنية القصيرة (أي في عامين) استطاع أن يفرض حضوره، إذ لا يمكن لأي مفكر عبقري في التاريخ أن يؤسس علماً، وأن يسجل اسمه بين عمالقة المفكرين في عامين من الزمن فقط. ومن المؤكد الواضح أيضا أن نبوغ ڤيبر السوسيولوجي احتاج إلى جهود كبيرة مترامية بذلت في تقاطعات عمره الزمني القصير، وعندما نمعن النظر في إنتاجه العلمي والفكري سنجد بأن معظم أعماله كانت -منذ البداية – تدور في فلك علم الاجتماع وتحلق في مداراته وتغور في أعماقه. وفي سياق آخر يمكن القول أيضاً: إن معظم الأعمال التي قدمها ڤيبر في مجال الفكر الديني ودراسات الأديان لا تخرج عن كونها فكراً سوسيولوجياً أصيلاً في منبته ومحتواه، وقد سجل نفسه في هذا المسار على أنه أحد أهم مؤسسي علم الاجتماع الديني، وقد تجلى هذا الأمر في كتابه “الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية” الذي يعد بحق من أهم الأعمال السوسيولوجية التي قدمها فيبر للفكر الإنساني، وهذا الأمر ينسحب بشكل عام على كتابيه الدين في الهند البوذية والدين في الصين الكونفوشيوسية، وهي جميعها قد كرست لدراسة العلاقة السوسيولوجية بين الفكر الدين وقيام الحضارة الإنسانية أو تمنعها، وهذه الأعمال كانت – بدون أدنى شك – أعمالاً سوسيولوجية في مختلف تجلياتها وأبعادها ومراميها. ومنها كتابه “مقالات في علم الاجتماع”، و “منهجية العلوم الاجتماعية” و”علم الاجتماع الديني”، و “علم اجتماع الموسيقى” و “المفاهيم الأساسية في علم الاجتماع”، و”نظرية التنظيم الاقتصادي والاجتماعي”. وهو الكتاب الذي قامت زوجته ماريان ڤيبر (Marian Weber) بجمعه ونشره بعد وفاته. ويمكننا القول في هذا المقام بأن النضج السوسيولوجي في هذا الكتاب جاء نتاجاً لاختمار سوسيولوجي سابق تأصل في التكوين الفكري المبكر عند فيبر. ويمكننا بناءً على تصورنا هذا أن نعيد القول تأكيداً: بأن أعمال ڤيبر بعناوينها وموضوعاتها تدل على أن الرجل كان سوسيولوجياً منذ البدايات الأولى لنشاطه المعرفي، والتاريخ والإدارة والسياسة. ويمكن القول في هذا السياق أيضا: بأن أعماله الاقتصادية والتاريخية والإدارية كانت وثيقة الصلة بعلم الاجتماع ولم تنفصل أبداً عن تطلعاته السوسيولوجية، إذ توفي بصورة مفاجئة في ميونيخ (Munich) في الرابع عشر من حزيران 1920 وهو في السادسة والخمسين من عمره، وهو الأمر الذي جعل كثيرا من المفكرين يعتقدون بأن الموت المبكر لفيبر شكل خسارة كبيرة للفكر السوسيولوجي وللمعرفة الإنسانية كما أشرنا، 2-1- عمالقة الفكر الإنساني: ولم تكن تصورات ماكس ڤيبر تنطلق من فراغ فكري، وبنيوية دوركهايم (Durkheim) وداروينية سبنر (ٍSpencer). ومع ذلك فإن هذا التحدي الكبير الذي فرضه كبار المفكرين العمالقة شكل قوة حافزة لماكس ڤيبر في العمل على استلهامهم وتجاوزهم في الآن الواحد. 16]. الكانطية، والماركسية نوابض التفكير الفلسفي والسوسيولوجي عند ماكس فيبر. 2-2- مثالية فيبر: ومن يتأمل بعمق في منهجية ڤيبر سيرى بوضوح أن ڤيبر قد استلهم كانط في مقولته عن معرفة الشيء (The thing in itself) في ذاته ومعرفة الشيء في ظاهره، وهم مدينون في إلهامهم لكتاب كانط “نقد العقل المحض”[17]. ويعرّف النومينون (Noumène- Noumenon)[18] – وفقاً لكانط – بأنّه الشيء في ذاته، وإذا كان العقل في مذهبه عاجزاً عن بلوغ حقائق الأشياء في ذاتها (الشيء في ذاته Noumena) فكيف لهذا العقل أن يتمكن من الوصول إلى حقيقة الذات الإلهية وهي أسمى معاني الوجود المتسامي على كل أشكال الحس؟[21]. أي إلى الضمير أو (القانون الأخلاقي)”[22]. وأقصى ما يمكنه أن يدركه لا يتجاوز مظاهرها، بل جلّ ما يمكن لمفاهيم العقل أن تفعله هو أن تقدم لنا تصوراً يتناسب مع خصائص العقل الإنساني وقدراته [23]. ويميز كانط، والإنسان ينتمي إلى العالم المحسوس بوصفه جسداً وإلى العالم المعقول بوصفه عقلاً وروحا؛ وقد سمّاه عالم النوميني. وهي كلمة لاتينية مفردها Neumenon وجمعها Neumena والمقصود بها حقيقة الأشياء في ذاتها لا في ظواهرها. والحواس تدرك الظواهر بينما العقل يدرك حقيقة الأشياء النوميني”[26]. ومن يتأمل سوسيولوجيا ماكس ڤيبر سيجد بوضوح أنه تلقف منهجية كانط واستفاد منها في التأسيس لمنهج سوسيولوجي يعتمد الفهم والتأويل؛ لأن الظاهرة الاجتماعية لا تدرك جوهرياً وفق منهجية الفينومينولوجيا آنفة الذكر أي: لا يمكن إدراكها في ذاتها، ولا يمكن قولبتها في قوانين جامدة، لأن قولبتها تؤدي إلى تشويهها وتدمير معانيها. على هذا الأساس يرى ڤيبر أن علم الاجتماع القائم على منهجية التفسير (السببي) لا يستقيم مع الظواهر المجتمعية التي تحتاج إلى أنماط مثالية خاصة لدراستها وفهمها. وهذا هو الأمر الذي تقوم به المنهجيات السوسيولوجية الوضعية (كونت ، ودوركهايم، وماركس) ومثل هذا التفسير يبقى شكلياً لا يستطيع إدراك البعد الوجداني في الظاهرة الاجتماعية؛ وقد يكون ممكناً لنا أن نغوص في أعماقها من خلال التأويل الذي يمكنه أن يستكشف الجوانب الخفية في الظاهرة المدرسة. فالظواهر الاجتماعية ظواهر ذاتية ثقافية وجدانية غائية معنوية لا تقبل القولبة، وتنفلت دائماً من قبضة السببية، وعلى هذا الأساس يقرر ڤيبر أن الظاهرة الاجتماعية لا تتكرر أبداً، فهي ظواهر فريدة في التاريخ الإنساني وهي تحتاج للمنهج الوجداني التفاعلي؛ وكأننا بماكس ڤيبر يريد أن يقول: بإننا لا ندرك طبيعة الظواهر الاجتماعية إلّا من خلال المعايشة والتفاعل الوجداني الصميمي. فالقول: بإن النار محرقة قانون سببي ولكن لا يمكنه أن يجعلنا ندرك مفهوم الاحتراق إلّا إذا عايشناه وجربناه على مبدأ قول الشاعر لا يَعرِف الشَوق إِلّا مَن يُكابِدُه ولا الصَبابَةَ إِلّا مَن يُعانيها. ويتضح لدينا – في هذا المقام – أن ماكس ڤيبر قد ألبس تصور كانط عن الشيء في ذاته “النومينون” والشيء في مظهره “الفينومينون” حلّة سوسيولوجية، وذلك بعد أن قام بتعديله وأسس عليها منهجه في الفهم القائم على الاستبصار الذاتي للوصول إلى جوهر الفعل الاجتماعي. فالفعل الاجتماعي يمكنه أن يفهم ويدرك ويفسر ويؤول ولا يمكن له أن ينتظم معرفياً في قوانين صارمة جامدة كالتي نراها في الطبيعة. وهي في أفضل أحوالها معرفة شكلية سطحية، تأخذ بما يظهر من السلوك، وليس بما يستبطن منه ويفهم، وكما يقول المثل ذلك عليك بما ظهر من الأمر وليس بما خفي واستتر. ومن أجل مزيد من التوضيح نقول هنا: إن منهجية ماكس ڤيبر تقوم على الفهم والتأويل، أو بما يطلق عليه الهيرمينوطيقا وهو المنهج الاستبصاري الذي يقوم على التأويل. 3- علم الاجتماع الفيبري: جاءت السوسيولوجيا الفيبرية على هيئة انفجار ثوري كبير في مجال العلوم الاجتماعية. وقد تجلت هذه الانتفاضة الثورية في تقديم رؤى سوسيولوجية ومعرفية مغايرة للنظريات السوسيولوجية الكبرى التي روج لها كبار المفكرين من أسلافه ومعاصريه من أمثال: ابن خلدون وكارل ماركس ودوركهايم وأوغست كونت، وجاءت عطاءات ڤيبر المعرفية لتشكل قطباً جديداً في مجال الفكر الاجتماعي، غالباً ما يطلق عليه التيار التأويلي في علم الاجتماع كما في العلوم الإنسانية. ففي الوقت الذي كانت السوسيولوجيا العامة، في مختلف تياراتها الوظيفية والبنيوية والماركسية، تحثّ الخطى سعياً إلى تأسيس علم الاجتماع وتأصيل مناهجه على منوال المنهجيات المعروفة في العلوم الطبيعية، رافضاً كل المنهجيات التي تتناول الظواهر الاجتماعية بوصفها كيانات مادية جامدة تخضع لقوانين مجانسة لتلك التي تقوم في العلوم الطبيعية. وإذا كان هؤلاء جميعاً ينظرون إلى المجتمع بوصفه امتداداً للطبيعة في أكثر أشكالها تعقيداً، وعلى خلافهم جميعاً، ينظر إلى المجتمع بوصفه ذاتاً، فالمجتمع طاقة روحية سيكولوجية نفسيه معقدة لا يمكن للعلوم القانونية الوضعية أن تخترق جدرانها وأن تكتنه معانيها، كما يحدث في المادة الجامدة، بل يمكن فهمها وتفسيرها ومعرفتها. فالمجتمع يتمثل بوصفه نمطا لتفاعل كينونات ذاتية أو صيغة تفاعل جدلي بين ذوات متفاعلة بالإرادات والنوايا والمعاني والقيم، وهي في جماعها تشكل نسيجاً نوعياً ثقافياً روحياً يستعصي على الانتظام في قوانين جامدة كالتي نعتمدها في استكشاف العالم المادي، ومثل هذا النسيج الثقافي يحتاج من أجل فهمه إلى طاقة منهجية جديدة تعتمد منهجيات الاستبصار والتأمل والحدس والاكتناه الوجداني، فالظواهر الاجتماعية ليست كالذرات المادية التي تتحرك دون غاية أو معنى أو دلالة، وعلى عكس ذلك فالإنسان في علاقاته وتفاعلاته يتحرك وفقاً لمبدأ الغايات والمعاني والدلالات، وهذه لا تحكمها قوانين لأنها من نمط الوجدانيات التي تنتظم في قوانين محددة. إنها تتميز بعمق وجداني لا يكتشف إلا بمنهجيات وجدانية تعتمد التبصر والاستبصار والاستكشاف القائم على اكتناه العمق الدلالي والمعنوي في سلوك الإنسان. وباختصار يشكل الفهم والتأويل والتفسير ثلاث مراحل أساسية في مستويات المنهج السوسيولوجي عند ڤيبر ” [27]. 3-1- الثورة المنهجية -من التفسير إلى التأويل: استطاع ڤيبر أن يحقق حضوره المميز في الحقل الاجتماعي وأن يحقق نجاحاً كبيراً في تأسيسه لعلم الاجتماع التأويلي (Interpretive Sociology) الذي يشكل نمطاً سوسيولوجياً مبتكراً ومختلفاً عن التيارات السائدة في علم الاجتماع، ولا سيما الاتجاهات البنيوية والماركسية السائدة في الحقل السوسيولوجي. التي تحاول استكشاف القوانين الحاكمة للظواهر الاجتماعية، وهذا يعني رفضه لسوسيولوجيا دوركهايم وسبنسر وأوغست كونت وغيرهم من المؤسسين لعلم الاجتماع. ويستند رفضه هذا إلى أن الدراسات الوضعية تأخذ طابعاً ظواهرياً، بمعنى أنها تستكشف العلاقات الظاهرية القائمة في المجتمع على غرار ما يجري في الطبيعة، وهذه المنهجيات لا تستطيع جوهرياً اكتشاف المعاني والدلالات في السلوك الإنساني الذي يتميز بأنه سلوك غائي معنوي ذاتي لا يمكن إدراكه بالقانونيات المعروفة في السوسيولوجيا الوضعية (Positive sociology)، دون القدرة على فهمها وإدراكها وتأويلها وفقاً للمعاني والدلالات الإنسانية. ويستند ماكس ڤيبر في استنتاجاته هذه إلى أن الظاهرة الاجتماعية تختلف نوعياً وجوهرياً عن الظواهر الطبيعية، أما الظواهر الاجتماعية فهي ظواهر حيّة معنوية دلالية غائية، لأنها تكشف ما هو خارجي وظاهر وشكلي، ولا يمكنها أن تغوص في الأعماق، وتغور في الطبقات الداخلية للظاهرة لتبحث فيما هو معنوي وذاتي وأخلاقي وإرادي، فالهوية الاجتماعية للفعل الإنساني متخفية غائرة خلف الظواهر وفي أعماق المظاهر، ولا يمكن الاستدلال على جوهريتها إلا بالاستبصار المعنوي والاستكشاف الذاتي الداخلي للفعل الاجتماعي. ودوركهايم، وغيرهم من المفكرين، وعلى خلاف المنهجيات الوضعية هذه جاء إعلان ماكس ڤيبر ميلاد منهجية انعكاسية جديدة ترفض قانونية المجتمع، وتؤسس لرؤية جديدة ومنهجية جديدة تعتمد على الفهم والتأويل، 3-2- غائية الفعل الاجتماعي يؤسس ڤيبر رؤيته لهذه المنهجية على الطبيعة الغائية والمعنوية للفعل الاجتماعي، وهذه الطبيعة غالباً ما تكون خفية في السلوك الإنساني، مثقل بالمعاني والغايات، والآخر بغية الشهرة، وآخرون للدفاع عن الوطن، إذ لا يمكن أن نحدد غاية الحركة في الذرات والإلكترونات وانسياب أشعة الشمس واسترسال نور القمر وحركة النمو في النباتات. فالمغناطيس يجذب الحديد ولكن لا نعرف لماذا يفعل ذلك؟ ولا ندري لماذا لا يجذب الخشب؟ وكذلك الخشب يطفو على سطح الماء ولا ندري لماذا لا يطفو في الهواء؟ النار تحرق ولكننا لا نعرف ماهية الإحراق وما جوهر النار أو جوهر الإحراق؟ كما لا ندري ما جوهر الجذب المغناطيسي؟ [29] وكل ما يستطيع العلماء فعله إزاء هذه الظواهر يتمثل في العمل عل الضبط القانوني لها، ولا يمكن الوصول إلى جوهرها، وباختصار، الدراسة العلمية للظواهر المادية تقدم لنا إجابات عن الكيفية التي تحدث فيها الأشياء؛ وسنتحدث لا حقاً عن الانتقادات الكبيرة التي يمكن أن توجه إلى أسلوبه وطريقته ومنهجه في البحث الاجتماعي، وحسبنا أن نشرح الطريقة المنهجية التي اعتمدها في التأسيس لمنهجه القائم على الفهم والاستبصار التأويلي[30]. 4- علم الاجتماع التأويلي (Interpretive Sociology): ولا سيما كتابه “البروتستانتية وروح الرأسمالية” الذي يتضمن المقومات الأساسية لعلم الاجتماع الديني. وفي كل الأحوال فإن كتاب “الاقتصاد والمجتمع” ((Economy and Society)[31] هو أشبه بموسوعة فيبرية تضمنت مختلف آرائه وتصوراته الاقتصادية والاجتماعية في آن واحد، وهذا يدل على الطابع الموسوعي لهذا الكتاب [32]. بتأويله ثم بتفسير مساره ومفاعيله تفسيراً سببياً [33]. وفي سياق آخر يقول: ” إن ما ندعوه سوسيولوجيا هو علم مهمته الفهم، عن طريق تأويل النشاط الاجتماعي” [34]. يتصرف بوعي، تحركه مقاصد وأهداف، وهذا يعني أن علم الاجتماع يجب أن يركز على فهم الفعل الإنساني والتفاعل القائم في المجتمع بين الأفراد”[35]. وإذا كان المجتمع يتكون من أفراد بالضرورة فإن هؤلاء الأفراد لا يوجدون إلّا في حالة الحركة والنشاط والتفاعل، والفعل يشكل جوهر حياة الفرد ووجوده وجوهر الحياة الاجتماعية ومعناها، والفعل الاجتماعي أي فعل يجب أن يكون إنسانياً؛ ويمكن للفعل أن يكون فردياً يدور حول ذاتية الفرد أو أن يكون اجتماعياً يدور في فلك الآخر. وعلى هذه الصورة يمكننا تصور المجتمع على صورة التفاعل الذري بين الذرات (الأفراد)، وكما يحدث في عالم الذرات تنطوي الذرة في ذاتها على فعل ذاتي يتمثل في حركة أجزائها في داخلها (الفوتونات والنترونات التي تدور في داخل الذرة)، كما تلتحم الذرة في أنساق من الذرات المشابهة لتكوين الأجسام والأشياء. وعلى هذا النحو يميز ڤيبر بين السلوك الفردي عندما يكون الفعل فردياً غائياً خارج سياق العلاقة مع الآخر، والسلوك الاجتماعي الذي يشمل حالة التفاعل بين الفرد والأفراد الآخرين. وباختصار: المجتمع والجماعات نسيج ذري من تفاعلات الأفراد وسلوكاتهم وأفعالهم الغائية. وترتسم نقطة البداية في سوسيولوجيا ڤيبر في تناوله للفعل الإنساني والاجتماعي بوصفه الموضوع المركزي والأساسي الذي ينطلق منه علم الاجتماع. أو بالأحرى قد يكون صادراً عن قوة خارجة اجتماعية، أو ناجماً عن أرادة ذاتية حرة. إذ لا يمكن للفرد أن يحيا إلّا من خلال النشاط والفعل الاجتماعي، فالفرد لا يوجد إلّا في حالة الفعل ليضمن حياته ووجوده. والفعل الاجتماعي لا يتم إلّا في أطار جماعة؛ أي في صلة مع الآخرين، وأن الفعل يكون في نسق التفاعل مع الآخرين، وهذا التفاعل الاجتماعي بين الجماعة أو في المجتمع يشكل النسيج الاجتماعي. وهذا يعني أن الأفراد يوجدون من خلال الأفعال التي يمارسونها في صيغة تفاعل اجتماعي بين الأفراد، ويبدأ ڤيبر في نسج أفكاره السوسيولوجية من خلال تناوله للفعل الاجتماعي الذي يشكل منطلق الحياة الاجتماعية. ويرى أن الفعل الاجتماعي يتميز عن الفعل الطبيعي بطبيعته الغائية والمعنوية، كما كان يحدث لدى الأقوام البدائية فيما نسميه بالظاهرة الأنيمية (Animism)، إذ كان ينظر إلى الكائنات الطبيعية والحية على أنها كائنات حيّة مماثلة له في جوهره النفسي والإرادي. فالإنسان القديم عندما أراد فهم الظواهر الطبيعية لم يستطع فهمها إلّا من خلال تصوراته الذاتية عن الإنسان نفسه؛ أي عما يشعر به ويراه، إذ يتوجب علينا أن نبحث عن المقاصد والمعاني والغايات والدلالات في سلوك الإنسان وفعله الاجتماعي كي نفهمه. وبناءً على ما تقدم يمكن القول: “بإن علم الاجتماع -بحسب ماكس فيبر- هو دراسة التفاعل الاجتماعي بين الأفراد داخل المجتمع، واستكشاف الطريقة التي يعطي فيها الناس فهماً ذاتياً للعالم، واستقصاء الكيفية التي يسلكونها في حياتهم الاجتماعية،