(أ) النوع الأول: المفعول به المتروك الذي لا يمكن النص عليه: وَيُمِيتُ ﴾ (٤٤) و هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ (٤٥) و وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ﴾ (٤٦) و وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ (٤٧) ، فَهُمْ يذكرونها تارة ومرادهم أن يقتصروا على إثبات المعالي التي اشتقت منها للفاعلين، وبذلك يكون الغرض الإخبار بوقوع الفعل من الفاعل من غير تعرض لمن وقع به الفعل، حتى كأنك قلت: «صار إليه الحل والعقد، فقولهم: «فلان يُعطي ويمنع، المراد به: يعطي ذوي الاستحقاق، ويمنع غيرَ ذَوِي الاستحقاق، ولم يكن المراد إلا الإخبار بوقوع الفعل من الفاعل لا غير، فصار كالفعل اللازم في الإخبار بوقوع الفعل من الفاعل . ومن ذلك أيضا قوله تعالى: ﴿وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (٥٠) وقوله: ﴿وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (٥١) ، وعلى ذلك فلا حاجة لما ذكره بعض المفسرين من تقدير لمفعول محذوف؛ وَأَبْكَى الْعَاصِينَ بِالسُّخْطِ وَقِيلَ : أَمَاتَ الْآبَاءَ وَأَحْيَا الْأَبْنَاءَ، وأَغْنَى نَفْسَهُ وَأَفْقَرَ خَلْقَهُ إِلَيْهِ. وَكُلُّ قَوْلٍ مِنْهَا لَا دَلِيلَ عَلَى تَعَيَّنِهِ، وأفضل من ذلك أن يقال : معنى أَضْحَكَ وَأَبْكى : خلق قُوَّتي الضحك والبكاء، فهُوَ الْخَالِقُ لِذَلِكَ وَالْقَاضِي بِسَبَبِهِ، كَمَا فِي قوله : خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَوَةَ (٥٤) ، ومَعْنَى أَقْنَى : أَعْطَى الْقُنْيَةَ أو أكسب، لأَنَّ الْمُقْصُودَ نِسْبَةُ هَذَيْنِ الْفِعْلَينِ لَهُ تَعَالَى، ويدخل في هذا النوع مما كان المفعول به متروكا قول طُفَيْلِ الغَنَوِي: هُمُ خَلَطُونا بالنفوس وألجؤوا إلى حُجُرَاتٍ أَدْفَأَتْ وأَظَلَّتِ وكأَنَّ الفعل قد أُبهِم أَمْرُه فلم يُقْصَدْ به قصد شيء يقع عليه، وهكذا قوله: ( ولو أنَّ أُمَّنا تُلاقي الذي لا قَوْهُ منَّا لَمَلَّتِ)؛ لأنه يجري مجرى أن تقول : لو لَقيتُ أُمُّنا ذلك لَدَخلَها ما يُملُّها منَّا)، لأنَّ فيه معنى قولك: (حُجُرات من شأن مثلها أن تُدفى وتُظِلَّ ) ، أي هي بالصفة التي إذا كان البيت عليها أدفاً وأَظلَّ، إذ لا تقول: (حجرات من شَأْنِ مِثْلِها أن تدفئنا وتُظلنا)، (ب) النوع الثاني: المفعول به المتروك المعلوم الذي لا يصح الغرض إلا بتركه وذلك كما في قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخُ كَبِيرُ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظَّلِّ (٥٨) ، ثم إنَّه لا يخفى على ذي بَصَرٍ أنه ليس في ذلك كله إلا أن يُتْرَكَ ذُ أتى بالفعل مطلقا، وذاك أنه لو قيل: (وجد من دونهم امرأتين تَذُودانِ غنَمَها)، فاعرفه تَعْلَمُ أَنكَ لم تجد لحذف المفعول في هذا النحو من الروعة والحُسْن ما وَجَدْتَ، ألا ترى أنه – عليه الصلاة والسلام - رحمهما إذ كانتا على صفة الذّياد، يتأمل قدر : يسقون إبلهم، ويدخل في هذا النوع قول البحتري شَجْرُ حَسَّادِهِ وغَيْظُ عِدَاهُأَن يَرَى مُبْصِرُ ويَسْمَعَ وَاعِ رابعًا: دراسة تفصيلية للمفعول به المتروك مع بعض الأفعال في القرآن الكريم جاء من النوع الأول الذي لا يكون له مفعول يمكن النص عليه في قوله تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (١١)، ويظهر الأثر البلاغي لهذا الترك في مثل قوله تعالى: ﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًاوَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (٦٢) ، ومما يحتمل التقديرين قوله تعالى: ﴿ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (10) فالمفعول إما محذوف تعويلًا على ظهوره بمعونة المقام، والذي يظهر من استعراض هذا الفعل في القرآن الكريم (٦٦) أن ترك المفعول إنما جاء مع الفعل المضارع المسند إلى واو الجماعة، مما يشير إلى أن المراعاة اتفاق الفواصل أثرًا كبيرًا في عدم ذكر المفعول به، ۱ - فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ (٦٧) - أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ (٦٨) - وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ (٦٩) - فَسْتَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٧٠) ويرى السكاكي أن مثل هذه المواضع تحتمل أمرين: القصد إلى نفس الفعل بتنزيل المتعدي منزلة اللازم ذهابًا في نحو : (فلان يعطي) إلى معنى: يفعل الإعطاء، وأكثر فواصل القرآن من نحو ( يعلمون - يعقلون - يفقهون) واردة على ما سمعت من الاحتمالين . وأول هذه المواضع قوله تعالى: ﴿قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ ﴾ (٧٢) ، وآخرها قوله تعالى : اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهُو ) (۷۳) . وكما رأينا ترك المفعول مراعاة لاتفاق الفواصل مع الفعل (يعلمون = تعلمون) وجدنا ذلك أيضا مع الفعل (يعلم) كما في قوله تعالى: ﴿ أَقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾ (٧٤) ويستثنى من ذلك أفعال قليلة جاءت في السياق نفسه كما في قوله تعالى: * وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٢٥) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٧٦) ، قال الفيروز آبادي في القاموس المحيط: «شِئْتُهُ أَشَاؤُهُ شَيْئًا و مَشِيئَةٌ ومَشَاءَةً ومَشَائِيَةً : أَرَدْتُهُ) . ومضارعا (يشاء) مائتين وستاوثلاثين مرة (٧٨)، وواحد وثلاثون موضعا لم يُذكر فيها المفعول. الآيات التي ذُكر فيها المفعول هي أربعة مواضع للفعل الماضي: ۱. إِلَّا مَن شَاءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (۷۹) . فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (۸۰) لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَرَ (۸۱) . لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ (۸۲) و موضع واحد للفعل المضارع إِلَّا أَن يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا (۸۳) وهذا الموضع محتمل لأن تكون كلمة شيئًا» مفعولا به، فقيل إن المصدر المؤول (أن يتقدم أو يتأخر) و (أن يستقيم) مبتدأ مؤخر، وربما يُحْذَفَ مَفْعُولُ المُشِيئَةِ لإغناء ما بعده عنه كما في قوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ ) (٨٤)؛ وذلك شأن فعل المشيئة والإرادة ونحوهما إذا وقع متصلا بما يصلح لأن يدل على مفعوله، وكذلك إذا كان في الكلام السابق قبل فعل المشيئة ما يدل على مفعول الفعل نحو قوله تعالى: ﴿ سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَى إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ﴾ . ومن ذلك قوله مَن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا ا لَهُ لَهُ جَهَنَّمَ جَهَا يَصْلَنَهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ (۸۷) ، لكن الطاهر بن عاشور قال: «وَمَفْعُولُ الْإِرَادَةِ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ مَا سَبَقَهُ، وَهُوَ نَظِيرُ مَفْعُولِ المُشِيئَةِ الَّذِي كَثُرَ حَذْفُهُ لِدَلَالَةِ كَلَامِ سَابِقٍ . ولقد كثر هذا الحذف في (شاء) و (أراد)، وقد تُرِكَ المفعولُ مع المضارع (يُرِيد) في قوله تعالى: ﴿وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِالْحَادِ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (٩١) ؛ يعنى أن الواجب على من كان فيه أن يضبط نفسه ويسلك طريق السداد والعدل في جميع ما يهم به ويقصده . وأعجب من ذلك اعتبار الزمخشري الفعل (أمر) مثل الفعل (شاء) في ترك المفعول، حيث قال: ونظير (أَمَرَ ) (شاءَ) : في أن مفعوله استفاض فيه الحذف،