كانت لماريلا أسبابها الوجيهة التي جعلتها تُحْجِم عن إعلام أن أنها ستبقى في المرتفعات الخضراء، ولم تعرف الطفلة بهذا القرار إلا مساء اليوم التالي، وخلال فترة الصباح والظهيرة شغلتها ماريلا بواجبات مختلفة وراقبتها بعين حصيفة أثناء أدائها لتلك الواجبات. ومع انقضاء الظهيرة استنتجت أن الطفلة مطيعة وذكية، مستعدّة للتجاوب في أداء المهمات وسريعة البديهة في التَعَلُّم، وكان أشدّ عيوبها خطورة هو الشرود والنزوع إلى الاستغراق في أحلام اليقظة أثناء أدائها لما هو مطلوب منها، بحيث كانت تسهو بين فينة وأخرى عمّا بين يديها إلى أن يعيدها لدنيا الواقع توبيخ ماريلا أو حلول كارثة. أنهت آن غسل أواني وجبة الغداء وقصدت ماريلا وقد ارتسمت علامات التحدي على مُحيّاها، مفصحة عن مكنونات شخصٍ بلغ به التصميم حدَّ الاستماتة لمعرفة أسوأ ما سيحدث له، وقفت وقد ارتجف جسمها الهزيل من الرأس حتى أخمص القدمين، واصطبغ وجهها بحمرة الانفعال، ألن تخبريني إذا كنت ستتخلين عني؟ حاولت التذرع بالصبر طيلة الصباح، ولكني أشعر الأن أني ما عدت بقادرة على الاحتمال مدة أطول، إنه لإحساس رهيب هذا الذي فأرجوك أخبريني. «اذهبي الآن، وأنجزي هذه المهمة قبل أن تسألي مزيدًا من الأسئلة يا آن. ذهبت آن واهتمّت بأمر فوطة تجفيف الأواني، » قالت ماريلا، بعد أن عجزت عن اختلاق عذر جديد لتُؤَجِل جوابها مدة أطول. نعم، قررنا أنا وماثيو الاحتفاظ بك، » أجابت آن بارتباك. «لا أستطيع معرفة السبب. أنا مسرورة بكل معنى الكلمة. آه، أنا. أنا سعيدة، أعدك أني سأبذل جهدي لأكون بنتًا صالحة، مع ذلك، سأبذل جهدي، لكن هل يمكنك أن توضحي لي سبب بكائي الآن؟» «ربما لأنك تشعرين بكثير من الحماس والإثارة، » أجابت ماريلا بلهجة مُستنكِرة. ستبقين هنا وسنحاول أن نربيك تربية صالحة. من الضروري أن تذهبي إلى المدرسة، «كيف ينبغي لي مناداتك؟» سألتها آن. أيمكنني مناداتك خالتي ماريلا؟» «لا؛ لست معتادة على لقب الآنسة كُثبيرت، يبدوذا وقع خالٍ من الاحترام، » اعترضت آن. «لا أظن أن فيه أي شيء غير محترم إذا كنت حذرة بما فيه الكفاية لتتكلمي باحترام، جميع الناس في أفونليا كبارهم وصغارهم ينادونني ماريلا، ما عدا رجل الدين الذي يقول ياآنسة كُثْبيرت، «ما حظيت بخالة في حياتي أبدًا، أو أي نسيب أو حتّى جدّة. ألا يمكنني مناداتك خالتي ماريلا؟» «لا. «ولكن يمكننا أن نتخيَّل أنك خالتي. «أنا لا أقدر، «ياالله!» سحبت آن نفسًا طويلًا، » يا الله يا آنسة كُثْبيرت، إنك تُفوِّتين على نفسك الكثير!» «أنا لا أؤمن بفائدة تَخَيُّل الحقائق على غيرما هي عليه» ردّت ماريلا؛ اقصدي غرفة الجلوس ياآن، واحرصي على ألّا يدخل الذباب إلى تلك . الغرفة، وأحضري لي من على الرفّ البطاقة المزخرفة. إليك ما يتوجب عليك ملاحظته ياآن: عندما أطلب إليك القيام بعمل ما، والآن اذهبي وقومي بما أمرتك به. وأسرعت إلى غرفة الجلوس عبر الردهة، لكنها تقاعست عن العودة، وبعد انتظار دام عشر دقائق وضعت ماريلا أدوات الحياكة جانبًا، وذهبت باحثة عنها وهي مقطّبة الجبين، وفي غرفة الجلوس وجدت آن تقف بلا حراك أمام لوحة ملوّنة معلّقة على . الحائط بين النافذتين، وقد شبكت يديها خلف ظهرها ورفعت رأسها بينما أغار النور الأبيض المتسلّل من الخارج على جسمها الصغير المستكين إغارة شبه خارقةٍ للطبيعة وهو يتماوج بالخضرة التي عكستها أشجار التفاع وعناقيد الكروم. بماذا تفكرين؟» سألتها ماريلا محتدّة. عادت آن إلى أرض الواقع مُجفلة. «تلك، والتي تجسّد صورة لجمع من الأطفال» كنت أتخيُّل الآن أني واحدة من هذا الجمع؛ إني تلك البنت ذات الثوب الأزرق التي تقف وحدها في الزاوية وكأنها لم تستطع الانتماء لأحد، مثلي، ألا تظنينها تبدو وحيدة وحزينة؟ أنا أعتقد أنها كانت بلا أب أو أم؛ لذلك تسللت خلف الحشد بحياء، لا بدّ أن قلبها كان يخفق وأن يديها كانتا باردتين، مثلما كانت يداي عندما سألتك إذا كنت سأبقى هنا! يجب عليك إحضار ما أطلبه منك فورًا، لا أن تقفي سابحة وخالمة أمام اللوحات. تذكّري هذا. خذي البطاقة وتعالي إلى المطبخ، وكانت ماريلا قد راقبت عملية التزيين لكنها لم تقل شيئًا، » أعلنت بعد فترة من الوقت «إنه جميل، أوه أنا سعيدة جدًا لأنك فكّرت في إعطائي هذه البطاقة يا. آنسة. ماريلا. «هيا إذن احفظي الكلام» قالت ماريلا مُنهية الحديث. ثم عكفت لعدّة لحظات تاليات على حفظ الكلام باجتهاد، لكنها سرعان ما وجّهت الحديث إلى ماريلا من جديد. «رفيقة حميمة، أي صديقة مقرّبة مني، توأم روح حقيقية لي، أستطيع البوح لها بأعمق أسرار دخيلتي. حلمت بمقابلة هذه الرفيقة طيلة عمري. «هناك فتاة تدعى ديانا باري تسكن في دارة منحدر البستان، وهي تقاربك عمرًا، ومن المحتمل أن تصبح رفيقتك عندما تعود إلى بيتها، لأنها الآن تزور عمّتها في بلدة كارمودي، برفيقة حيّة حقيقية لتازعي هذا المراء من رأسك، ستعتقد أنك ممّن يختلقون القصص. «لا، لن أفعل، فذكراهما مهمة جدًا بالنسبة لي؛ ياللروعة! انظري، لقد طارت هذه النحلة الكبيرة خارجة من قلب زهرة . التفاح، أليس هذا مكانًا جميلا للسكن؟ قلب زهرة تفاح! تخيّلي نفسك نائمة فيه بينما يؤرجحه النسيم، لولم أكن فتاة من الإنس أظنني أحب أن أكون نحلة تعيش بين الأزهاز. «أمس أردت أن تكوني نَوْرسًا» نفخت ماريلا من منخريها. لكن يبدو أنه من المستحيل عليك التوقف عن الكلام إذا وجدت من يستمع إليك، أوشكت على الانتهاء من حفظه كله. الأخير. «هيا، اصعدي إلى غرفتك، وامكني هناك إلى أن اناديك لتساعديني في إعداد الشاي. » . «أيمكنني أن آخذ أزهار التفاح معي لتؤنسني؟» توسّلت آن. «لا، لا أظن أنك ترغبين في إحلال الفوضى بغرفتك، وكان عليك في المقام الأول أن تتركي هذه الأزهار على أغصانها. «أنا أيضًا شعرت بهذا» أجابت آن «، شعرت أني لا يجدربي تقصير عمرها الوديع باقتطافها، لكني لم أستطع مقاومة الإغراء. ما الذي تفعلينه أنت عندما تواجهين إغراءً لا يُقاوم؟» أسَمِعتني أطلب إليك الصعود إلى غرفتك؟» تنهّدت آن، وغادرت المطبخ إلى الغرفة الشرقية، وجلست على كرسي إلى جانب النافذة. حفظت السطر الأخير عندما كنت أصعد الدرج؛ لذلك سأنصرف الآن إلى تخيُّل وجود أشياء في هذه الغرفة بحيث تبقى فيها دائمًا، سأغطي هذه الأرض بسجادة مخملية بيضاء مزدانة بأزهار وردية اللون وسأجلّل النوافذ بستائر حريرية وردية اللون أيضًا، أنا لم أرمن قبل هذا النوع من الخشب، لكن وقعه على الأذن يدلّ على أنه فاخر جدًّا، هاهي أريكة عليها أكوام من الوسائد الحريرية البديعة، وأنا أتكئ عليها برشاقة. أنا فارعة الطول وذات إطلالة ملكية، لون شعري فاحم كالليل وبشرتي صافية كالعاج النقيّ. اسمي السيدة كورديليا فيتزجيرالد. » وقفت أن أمام المرآة الصغيرة وأمعنت النظر فيها، فردّت عليا المرآة بالمثل عاكسة نظرات عينها الرماديتين الحزينتين ووجيها الدقيق المنمش. أفلا تَريْن أنه من الأفضل لي مليون مرة أن أكون أن المرتفعات الخضراء على أن أكون آن التي ليس لها أي مكان تنتمي إليه؟» انحنت إلى الأمام، واتجهت نحو النافذة. تُرى هل ستصبح ديانا رفيقتي الحميمة، هذا ما أرجوه، لأني سأحبها من كل قلبي، لأن نسياني لهما سيجرح مشاعرهما، وأنا أكره جرح مشاعر أحد، حتى لو كانت مشاعر فتاة تعيش في خزانة كتب أو فتاة تعيش في الصدى.