شيخ القصيدة العمانية الذي سحر البيان بلغته العذبة إذا قلنا إن عبد الله الخليلي هو شيخ القصيدة العمانية خلال النصف الأخير من القرن العشرين فليس في ذلك مبالغة ولا إطراء، قصيدته جامعة للكثير من اللطائف البلاغية بمعانيها وبيانها، إلى جانبا ما تمتاز به من انفراد لغوي، إذ فيها خليط سحري من الإلهام المقذوف في لب الشاعر والاستلهام الذي يوظفه ليوشي به قصيدته، عشق يتجلى في لغة ناصعة ليس فيها حشو ولا مفردات ركيكة، واذا كان الشعر لا يورث كبقية الأشياء التي تنبت في ارض خصبة من عبقرية الإنسان، إلا انه لا يمكن القول بأن الشاعر الكبير عبد الله الخليلي لم يرث الشعر!، بنتاجها، فأبوه كان شاعرا وجده عبد الله بن سعيد كان له ديوار شعر بقيت منه قصائد متفرقة بعد أن ضاع ديوانه في ظل ظروف غامضة، حيث يظهر ذلك في فتاواه، وكذلك جده لأبيه العلامة المحقق سعيد بن خلفان الخليلي صاحب الباع الطويل في علوم اللغة، الذي بلغ الذروة العليا والسنا لم الرفيع في الفقه والأدب، حتى أصبح مرجع العمانيين خلال النصف الأخير من القرن الثامن عشر الميلادي، وله من انتاجه المشهود له بالنبوغ ألفية حوت أبواب علم الصرف، وحمد تغص الكائنات بنشره الخ القصيدة الرائعة التي أشبعها بالتوسل في الذات الإلهية وقد شرحها الأديب جمعة بن خصيف الهنائي - أحد تلامذة الشيخ سعيد الخليلي - وخمسها شاعر العرب الكبير أبو مسلم الرواحي، ، الى جانب مؤلفات أخرى. وهذه هي روافد الإبداع التي تغذى منها عبدالله الخليلي وغذى بها موهبته الأصيلة التي نمت وترعرعت في أرض خصبة، فهو شيخ القصيدة العمانية بلا منازع، ومع ذلك، ومع هذه اللغة الساحرة الآخذة بنواصي البيان والأخاذة في مرايا القلوب، الا أن الشاعر ظل مغيا عن النقد، لم يكن الشاعر ذا حظ مع واضعي المنهج الدراسي لطلابنا، أقم على العلم واترك رأي من خملا واستعمل الفكر حتى تبلغ الأملا أن واضعي المنهج لا يعرفون عن الخليلي شيئا سوى أنه شاعر عماني معاصر فقط، كتاب يثقف بها نفسه، وهذا حال أدبنا العماني الذي غيب وطمر ولم يظهر منه سوى القليل، مع أن مقولة "خلف كل صخرة في عمان شاعر" رائجة جدا ولا تحتاج الى أدنى توصليح. وحسبي أنني أفخر بتلك المعزة التي يكنها لي، كان يعدني أحد أبنائه وكل الكتاب الشباب والشعراء هم أبناؤه حقيقة، وكنت مهووسا بحب شعره، وينتقل بجلسائه من قصيدة لأخرى، وكان يعجبه أن يقرأ عليه شعره، واكتشفت بعد ذلك انه كنت أسعى اليه سعي الطالب للأستاذ، مع أن لكنه يستهويه تبديل كلمة بأخرى وقد يلغي البيت بكامله ويضيف عليه بيتا آخر، أو يبقي على الصدر، وتوسل مستمر لا يعرف التوقف، وحين ناقشت حول هذه المسألة أجاب باجابة صريحة قائلا: ان الشاعر رب شعره وهو حر فيما كتب ويكتب واذا ما أحدث الشاعر تغييرا في قصيدة كتبها منذ سنوات فذلك من شأنه هو، هو أم القصيدة التي تتخلق في رحم فاقترحت عليه ان يخصص لوالده دفترا آخر ليكتب فيه ما يشاء من تغيير كي يبقي على النص الأول، واخلاص متناه، وعشق حقيقي للقصيدة، عمل يتواصل ليلا ونهارا من أجل أن يكتب قصيدة تعبر عن مكنونات وجدانه وخلجات فكره، لقد كشف أكثر من مرة أنه يعيش مع الشعر ليل نهار ولا يفارقه، بل لملاحقة ذلك التدفق ، لقد مرت بالشاعر الكبير عبد الله الخليلي أحداث جسيمة استطاع أن يسيطر عليها بالشعر، وبمرور الأيام سببت له مرض شلل الرعاش الذي عانى منه كثيرا وبالاخص في السنوات العشر الأخيرة من حياته، والحمد لله، ذات مرة حدثتني نفسي أن أطلب من الشاعر ان يكتب قصيدة في مدينة نزوى، أعلم أن هذه المدينة أثيرة في نفسه وعزيزة عليه، فإذا لابد من تهييج مشاعره، فكتبت رسالة ذكرت فيها مكانة هذه المدينة في قلبه وقلب عمه الأمام، وطلب مني مراجعته بعد أسبوع، طاف بها حقول النور لهذه المدينة التي تعد تخت الأمة الأباضية، يقول في مطلعها: الى أن نشم النور من هضبة النجوى وقال بصوت "ثفلى بمرضي يحرمني لقاء أحبتي"، إن أتراب الشيخ الخليلي كثيرون وتلامذته أكثر من أن يعدوا ويحصوا، ولقد دخل مجلس الاثنين متواصلا لأكثر من ثلاث سنوات، وكلما كانت السنوات تزحف، لقد نضجت القصيدة على نار المعاناة، انهم يفتقدون صاحب وحي العبقرية وفارس الضاد، الباب، الا في حالات نادرة للسؤال عن حاله والاطمئنان على صحته المتراجعة والمتهاوية. وفي سانحة منها الله عليّ، قادتني الأقدار الى منزل الشاعر بمدينة القرم، فلعل نسمة تكون قد مرت على الشاعر فتحمل لي خبرا عنه. مازلت احوم ببيت الشاعر كما تحوم نحلة الى زهرة عباد الشمس، وهناك يربض الأسد الهصور، هل أطرق هأنا ذا أطرق، قيل: لقد تعاطى الدواء قبل نصف ساعة قلعله يستطيع الكلام، ويستقر في ذات الكرسي الذي افتقده منذ زمن، لقد عادت له بعد صمت مطبق، ثم أنشره على صفحات الجريدة، قال: لك ذلك وأنا معك الى أن يثقل لساني، أسرعت أسائله وأملي عليه أسئلة عامة، وكان الشاعر طيعا في إجابته، متدقا ومنهمرا أحيانا، وقال انه كتب قصيدة بمناسبة تكريمه سماها (شبح الهوى) ويخص الملحق الثقافي بها لنشرها في يوم إلقائها، لكن لسان الشاعر بدأ يثقل وعلى أن أتوقف عن طرح الأسئلة، وحانت لحظة الوداع، وهي لحظة فاجعة، لقد أحسست أني لن أقابل الشاعر بعد هذا اليوم، ومضيت فرحا بهذه السانحة التي أضفت عليّ حبورا، عدة، لأعلم أن الشاعر دخل غيوية أبدية لم يفق بعدها إذ استمرت أكثر من عام ونصف العام، كانت سمائل مسرح طفولته الغضة ومرتع صباه الباكر، فجاءت قصيدته ناعمة ترفل في دمقس الكلام وحرير اللغة ، من أحمر مثل العقيق وأصفر غناء باكرها الحياء فأتاحها وكأنما الرمان أثداء المها نغم الحسان تهيم في الأجراس داود هاج بلال الجلاس وكأن وسوسة الجداول في الدجا حلي الكعاب برنة الوسواس وكأن هيمنة الصبا وحفيفها همسات مشتاقين خوف حراس كتب الشاعر الخليلي في أغراض شعرية متنوعة، فهو عذري في شعر النسب، ومتعبد راهب في محراب شعر الوسيلة، انه راهب سمائل الذي ملأ مغانيها وأفياءها وساحاتها وضواحيها شعرا عذبا فيه من الشفافية والرقة ما يتخطر له القلب، كتب الشاعر الخليلي القصيدة بدم القلب وهو لا ينتمي إلى سلسلة النظامين بل الي سموط المبدعين، وهو مهندس ماهر في اللغة، فحين تقرأ قصيته للمرة الأولى تشعر ان فيها سحرا وأنها من لدن وحي العبقرية، وأن هذا الشعر الذي يكتبه الخليلي هو ضرب من نبوءات الحكمة التي هي ضالة المؤمن والتي أجهد الشاعر ذاته في البحث عنها طيلة نصف قرن من الزمان، وضمنها ديوانه وحي العبقرية لكنها لم تكن بحثا في التفاصيل التاريخية بقدر ما كانت مفتاحا للولوج من خلالها إلى عوالم جديدة تكشفها العبقرية في دروب الذاكرة ودهاليزها الخفية، فيضفي عليها فيضا من سحر بيانه. كتب الشاعر المقامة الأدبية النثرية بلغة رفيعة، وكتب القصة القصيرة، وله دواوين شعرية مطبوعة من بينها وحي العبقرية ووحي النهى وعلى ركاب الجمهور وهذا الاخير سلك فيه درب شعر التفعيلة،