ففي طبيعة المُعلم الحق — كما أراه — شيء من طبيعة بروميثيوس، فإذا ما تصدَّقوا منها بشيء على عباد الله من عابري السبيل، ليتعذَّر فهمها على المُتلقي حتى لا يسبق إليه الظن بأن ذخيرة الكاهن أمرُها يسير، لتجد نفسها كاملة كلَّما استوت لديها فكرة واضحة، لأنني أشعُر عندئذٍ بأن بروميثيوس قد أوصل الشعلة إلى قابسيها ولا فرق في ذلك بين من قَبِل فكرتي المعروضة ومن رفضها ما دام القبول والرفض كلاهما قد جاءا بعد فهمٍ واضح. فمن ناقشوني — قبولًا ورفضًا — يُعدُّون بالمئات إمَّا بالبريد وإما باللقاء المباشر، وشاءت المصادفة أن يكون اعتراض الطالبة هو نفسه اعتراض الطالب وقد رأيتُهما في يومَين متلاحِقَين ومع ذلك فقد كان يمكن أن يذهب لقاؤهما كما ذهب لقاء المئات من قبلهما دون أن يُحفزني ذلك إلى حمل القلم، وما عرفتُ أني أسأت إلى صديقي بكلمةٍ أو فعل اللهم إلا أن يكون مجرد وجودي على ظهر الأرض حيًّا قد بدا له وكأنه رضوى حجب عنه ضوء الشمس، ومنذ ذلك اليوم الذي صُدمتُ فيه بخطاب الصديق أصبح للقائي بمن يسعَون إلى مناقشتي في شيءٍ كتبته فرحتان: فرحة المُعلم بمهنته وطبيعته وفرحة من يرجو أن تكون رؤية صديقي لحقيقة أمري قد جاءت على شيءٍ من الإجحاف، ألا ترى أن مَوقفك قد طرأ عليه في الفترة الأخيرة تغيُّر حاد؟ فبعد أن كنتَ تدعو في إصرارٍ إلى منطق «العقل»، أخذَتْ تعلو عندك نبرة «القلب» وما ينبع منه على طريق العقائد والمشاعر. فرأيتُ من الخير أن أوضِّح موقفي الفكري الذي لم أجد حتى الآن ما يدعوني إلى تغييره لا لأنني أراها جريمة أن يُغيِّر رجلٌ من أفكاره ما تُثبت له الأيام بأنه خطأ واجب التصحيح، يتحرَّك الإنسان بحياته في مجالَين أساسيين لا يكاد يتصل أحدهما بالآخر إلا تماسًّا من الخارج كما يتماسُّ مربع ودائرة فهما مجالان مُستقلان لكل منهما مبدأ يدور عليه غير المبدأ الذي يدور عليه المجال الآخر، فماذا نعني عندما نقول عن المجال الأول — مجال العلوم أو ما يجري مجراها — أن «العقل» هو مداره؟ الذي نعنيه هو أن الفكر فيه يكون في حركة انتقالية ينتقل بها من المُقدِّمات إلى نتائجها أو من الشواهد إلى ما يُبنى عليها، وهكذا يكون العقل في حياتنا الفكرية أشبَهَ شيءٍ بسيارة تنقلنا من المعلومات الأولية التي بين أيدينا إلى ما يمكن الوصول إليه من نتائج قابلة للتطبيق الفعلي على دُنيا الوقائع. فالإنسان حين يُدرك حالته الباطنية إدراكًا مباشرًا يكون الموقف قد اكتمل عنده. فافرض مثلًا أن قلبه نبض بالحُب أو أنه أحسَّ ألمًا في رئتيه أو شعر بصداعٍ في رأسه، لكن قارن هذا بأي موقف عِلميٍّ كان العقل فيه هو أداة الإدراك كأن نقول إن الغاز إذا زاد عليه الضغط قلَّ حجمه، أو أن السلعة المُعينة إذا زاد المعروض فيها على المطلوب قلَّ ثمنها أو أية حقيقة علمية تُصادِفك، لأن على صاحب الدعوى أن يُثبت صوابها بالتجربة أو بالبرهان النظري إذا طُلب إليه ذلك، الفرق بعيد بُعدَ ما بين السماء والأرض إذا ما قُورِن موقف الإنسان وهو في المجال الأول بموقفه وهو في المجال الثاني: في الأول علمٌ قائم على برهان، فصاحب الحالة أدرى بما فيه ولا يعرف الشوق — كما قال الشاعر — إلا من يُكابده ولا الصبابة إلا من يُعانيها. نعم إن من حقِّ كل إنسانٍ أن يختار الأولوية في هذَين المجالَين أين تكون بمعنى أن يكون في حياته أكثر اهتمامًا بحقائق العِلم من صرف الوقت في الاستماع إلى نبضات قلبه، والذي استوقف نظري منذ الأربعينيَّات هو أننا — أبناء مصر بل وأبناء الوطن العربي — في حياتنا الثقافية قد ارتكزْنا على المجال الوجداني أكثر جدًّا مما ينبغي، فلمَّا جاءتني الطالبة وجاءني الطالِب كل منهما يسأل على أثر شيء قرأه لي فقرأ ما يدلُّ على اهتمام بالوجدان هل غيَّرتُ موقفي العقلاني الذي اصطنعتُه منذ سنين تُعد بالعشرات. أيُقال لي عندئذٍ هل أنكرتَ على منزل السُّكنى وجوده ما دمتَ لم تذكُره يومًا فيما تذكُر؟ ألا يجوز أن يكون السكوت عن مكان السُّكنى صادرًا عن الاكتفاء بما يُبذَل فيه من رعاية؟ وذلك هو موقفي عندما بذلتُ معظم جهدي في الدعوة إلى حياة العقل، وربما كان الخطب في عزوفنا عن العناية بتنمية النظرة العلمية يهون لولا أننا بحُكم ثقافتنا السائدة أكثر نزوعًا نحو رفض العقل وقيوده حتى لنرتاب فيمن يركَن إلى أحكام العقل وحدَها، وهو موقف ثقافي كانت له آثاره البعيدة على طريقة مُعالجتنا للشئون المادية نفسها كالزراعة والتجارة والصناعة والسياسة والتعليم وسائر شئون حياتنا التي من هذا القبيل؛ وكنا في ندوة عامة تحدَّثتُ فيها عن ضرورة أن تكون الكلمة الأولى والأخيرة للتفكير العِلمي وحدَه ما دام الأمر المعروض من شأن العقل ومنهجه، أقول سألني زميلٌ جليل عندئذٍ فقال: ضدَّ مَن تُوجِّه هذه الدعوة المُلحَّة للعقل؟ فأجبته قائلًا: ضدَّ نفسي يا سيدي، وأحسُّ من داخلي كم أميل بقلبي نحو مواقف بعَينها في تضادٍّ مع ما يأمُر به منطق العقل فلا يُنقِذني إلا أن أُلحَّ على نفسي بضرورة الاهتداء بأحكام العقل ما دُمنا في ميدانه،