## قصة حادثة للكاتب نجيب محفوظ كان الرجل في الستينيات، طويل القامة نحيل، ذو جبهة وعينين متجعدتين. ذقنه مُكَّور ورأسه أصلع، عدا بعض جذور شعر بيضاء تشبه شعر ذقنه. كان مظهره يعكس إهمالاً نتيجة للسن أو الطبع أو نسيان للذات، لكنه يتمتع بحيوية مرحة وعيناه تلمع بالنشاط والابتهاج. كان يتحدث في هاتف الدكان بصوت مرتفع، ليبتعد عن ضوضاء شارع الجيش، ثم ودّع صاحبه بعبارة "إنتظرني سأحضر فوراً". كان ينظر إلى الداخل وليس إلى الطريق، ثم مال يمنة بمحاذاة صف من اللوريّات، وجد منفذاً إلى الشارع، وعبّر إلى الضفة الأخرى. ما إن جاوَز مقدمة اللوري الأخير حتى شعر بسيارة فورد تندفع نحوه بسرعة فائقة. أحد الشهود ذكر فيما بعد أن الرجل كان عليه أن يتراجع، لكنه لسبب ما، ربما المفاجأة أو سوء التقدير، وثب إلى الأمام وهو يهتف "ياساتر يارب"! ندّت صرخة كالعواء من الرجل، وانطلقت صرخات الفزع من المارة، وصدر صوت محشرج من فرملة الفورد وهي تزحف على الأرض بعجلات متوقفة جامدة. هرع العشرات نحو الضحية، وتكون منهم سور غليظ منيع، وانتشرت الفوضى. لم يتحرك جسم الرجل، وكان منكفئا على وجهه، لا يجرؤ أحد على لمسه. كانت إحدى رجليه ممدودة إلى آخرها والأخرى منثنية، البنطلون منكسر عن ساق نحيلة غزيرة الشعر، وقد فقدت حذائها. "الرجل طار في الهواء والعياذ بالله!" "ولو عفو ربنا كبير، لا يوجد دم؟" "عند فمه انظر." "كل ساعة حادثة من هذا النوع" جاء شرطي مسرعا، فتح له وقع قدميه ثغرة في السور الآدمي، نفذ منها وهو يصيح في الناس أن يبتعدوا خطوات. قال إنسان: "سيبقي هكذا حتى يموت ونحن لا نفعل شيئا" فأجابه الشرطي بلهجة رادعة: "أقل لمسة قد تقتله، وبوليس النجدة والإسعاف في الطريق إليه" اعترض الحادث جانب الطريق، اضطرت السيارات إلى الإلتفاف حول السور البشري، مشاركة الترام في ممشاة. فضاق بها حتى تحركت في بطء شديد وتجمعت في صفوف ممتدة ومتداخلة. من ركابها تطلعت أعين إلي الضحية في اهتمام، وأعين أخرى تجنبت النظر في جذع. جاء بوليس النجدة وراء صفارته الحلزونية، واتسعت الحلقة وغادرت القوة السيارة إلى الرجل. كان الضابط حاسما وحازما، فأصدر أمرا بتفريق المتجمعين، وتفحص الرجل بنظرة شاملة، وسأل الشرطي: "ألم تحضر الإسعاف؟" لم يلق بالا للجواب، وتسائل مرة أخرى: "هل من شهود؟" فتقدم ماسح أحذية وسائق لوري وصبي كبابجي، وأعادوا على مسمع الضابط ما حدث. ثم نهض متوجهاً إلى الضابط، فبادره هذا قائلاً: "أظن يجب نقله إلي الإسعاف" فقال الآخر بلهجة ذات أثر لا يختلف عادة عن أثر جرس سيارته: "بل يجب نقله إلي مستشفى الدمرداش" أدرك الضابط ما يعنيه ذلك، فاستطرد رجل الإسعاف قائلاً: "أعتقد أن الحالة خطيرة جدا". وعندما أُرقِد الرجل بحجرة الفحص في مستشفى الدمرداش، كانت طلائع الليل تزحف كالجبال. التفت الطبيب إلى مساعده قائلاً: "إصابة خطيرة في الرئة اليسري، تهدد القلب مباشرة". "عملية!" "إنه يحتضر!" صدقت فراسة الطبيب، تحرك الرجل حركة شاملة كالرعشة، اضطرب صدره اضطرابا متلاحقا متحشرجا، ثم شهق شهقة خفيفة واستكن. كان الطبيبان يراقبانه، فالتفت المدير نحو مساعده وهو يقول: "انتهى". جاء ضابط النقطة والراجل ما يزال راقدا بكامل ملابسه، عدا فردة الحذاء المفقودة. قال الطبيب: "هذه الحوادث لا تنتهي". قال الضابط وهو يوميء إلي الفقيد: "وشهادة الشهود ليست في صالحه". دس الضابط يده في جيب الجاكتة الداخلي فاستخرج حافظة نقود قديمة، ومضي يفتشها جيبا جيبا، ويملي علي الشاويش: "خمسة وأربعون قرشا من العملة الورقية، روشتة للدكتور فوزي سليمان". ألقى نظرة عابرة علي أسماء الأدوية، لكن لاحظ وجود كتابة علي ظهرها، جرّه بصره عليها بلا إرادة فإذا بها: **"ويستحسن تجنب المنبهات كالشاي والقهوة والشيكولاته"** ابتسم الظابط ابتسامة باطنية، إذ أن تعليمات شبيهة صدرت إليه من طبيبه في نفس الشأن. وجد أيضا مجلدا صغيرا من الصور القرآنية، ولما لم يجد شيئا اخر في الحافظة قال بضيق: "لا توجد بطاقة تحقيق شخصية". مناديل، ساعة يد. وكان آخر ما عثر عليه صفحة مطوية من كراسه، بسطها فوجدها رسالة لم تغلف بمظروف بعد، فأمل أن يصادف فيها ما يستطيع أن يستدل به علي شخصية الرجل. نظر أول ما نظر علي الإمضاء ولكنه لم يزد عن "أخوك عبد الله". فَعاد إلي رأس الصفحة، ولكن الرسالة كانت موجهة "إلي أخي العزيز أدامه الله". فاستاء من هذه المعاندة ولم يجد بُدا من قرائتها. -"أخي العزيز أدامه الله، اليوم تحقق لي أكبر أمل في الحياة"، اضطر إلي التوقف رافعا عينيه إلي تاريخ الرسالة، وكان تاريخ اليوم نفسه ٢٠ فبراير. امتد بصره فوق الوجه الأسطر إلي الوجه الباهت المشئوب بزرقة مخيفة، المغلق كسر، الجامد كتمثال، ذلك الذي تحقق له أكبر أمل في الحياة. "عثرت علي شيء؟" فانتبه إلي نفسه وابتسم ابتسامة إستهانة ليدل علي اعتياده أي شيء، وقال "اليوم تحقق لي أكبر أمل في الحياة"، بذلك بدأت الرسالة وعاد إلي القراءة متجنبا النظر إلي عيني الطبيب. "انزاحت جميعا والحمد لله، أمينة وبهية وزينب في بيوتهن".