عندما نفكر بأثر المنفى في الآداب العالمية المعاصرة سندهش لغزارة عمليات الانتقال والهجرة والنزوح والارتحال، من الشعوب التي تعرضت للغزو إلى الغرب نفيا أو بحثا عن الرزق وهروبا من بطش القوى الاستعمارية. فثمة منفى مفروض على الجماعات الثقافية والعرقية التي غذت الخطى باتجاه الغرب بتأثير استعمار بلادها، كما أن ثمة انتقالا لأعداد كبيرة من الجنود وموظفي الإدارات الاستعمارية وعائلاتهم، إضافة إلى بعض المغامرين والرحالة الذين دفعتهم تجربة الاستعمار لاستكشاف الأراضي الجديدة والكتابة عنها، إلخ المهمات التي خولها المستعمرون لأنفسهم في البلاد المستعمرة. ولذلك يبدو تعريف أشكروفت وزملائه للمنفى بأنه يقابل "فكرة الانفصال والابتعاد عن الوطن الأم أو عن الأصل الثقافي أو العرقي"1" نوعا من ضغط المفهوم وحصره، أما الثاني فهو مختار نشأ نتيجة رغبة المرء في مغادرة وطنه لأي سبب من الأسباب. كما تندرج حالتا الوجود الخاصتان بالمنفى والاغتراب في تشابهات تجعل من الصعب التمييز بين المنفي والمغترب؛ لأن الشروط السياسية والاجتماعية والثقافية دفعت الفلسطينيين إلى خارج الوطن الأم في ظروف شديدة التعقيد خلال رحلة الشتات الفلسطينية المستمرة. ما يفضي إلى تعقيد مفهوم المنفى وضرورة النظر إليه من جوانب مختلفة وعدم الاكتفاء بالمعنى اللغوي ذي الدلالات السلبية للمنفى. أو جرى تهجيرها بالتهديد والقسر عنها، أو اضطرت بسبب القهر والاضطهاد السياسيين، للهجرة إلى بلدان أخرى والاستقرار على هوامش مجتمعات تلك البلدان على الأغلب، إن من الصعب بالفعل أن نرسم شبكة لمعنى المنفى وأدب المنفى ضمن هذه الظروف المعقدة من عمليات النزوح والشتات والاغتراب والاقتلاع والتشريد والنفي والرحيل الطوعي أو الهجرة بحثا عن الحرية أو الرغبة في تحسين الأوضاع المعيشية؛ وهؤلاء ينتجون آدابا مهجنة لكنهم يتخذون من الفرنسية والإنجليزية لغة يعبرون بها عن أنفسهم، إن هويتنا تُقيد وتحبس وتحاصر في جزر صغيرة خائفة ضمن محيط غير مضياف تحكمه قوة عسكرية عليا تستخدم رطانة إدارة حكومية تؤمن بالطهارة [العرقية] الخالصة. إن الإشارة إلى المنفى كتقييد للهوية ومحو لها هو من بين السمات الدالة على آداب المنفى، ولعل الأدب الفلسطيني أن يكون من بين أكثر الآداب العالمية التي تكونت وتطورت داخل بوتقة المنفى، فلا يمكن النظر إلى الأدب الفلسطيني إلا بوصفه أدب منفى واغتراب ومحاولة للحفاظ على الهوية المهددة. ولكني أنا المنفي خلف السور والباب أرد إليّ لون الوجه والبدن أي في المرحلة التي سبقت خروجه من فلسطين ملتحقا بالمنفيين من شعبه، إلا أن درويش يجعل من صوت المتكلم في قصيدته جزءا من كورس أصوات المنفيين الفلسطينيين جميعا. إنه يكتب شعره داخل الوطن بوعي المنفي الأبدي مدركا في الآن نفسه أن وجوده على أرض الوطن لا يعفيه من شعور المنفى لأنه مقتلع ومشرد على أرضه. ففي "سرير الغريبة" لمحمود درويش تشدد قصائد الحب جميعا على فكرة الغريب الذي يبحث عن غريبة تشفيه من جراح غربته ومنفاه، معرفا هوية الغريب الأبدي الذي أدمن العيش في هويته التي أصابها جرح نازف مقيم. غريب على ضفة النهر، إلى نخلتي: لا السلام ولا الحرب. شيء يدخلني في كتاب الأناجيل. شيء ينزلني من مراكب فرعون. شيء يحملني أو يحمّلني فكرة: لا الحنين إن هويته هي المنفى وتجربة الوجود بالنسبة له قد تشكلت حول تلك البؤرة الشاذة الغريبة من الرحيل والهجرة، والابتعاد والفقد الذي يستحيل عكس مساره ورأب صدعه بالوعد والحنين أو الحب. في سياق يفسر رؤية درويش الشعرية للمنفى يذكرنا إدوارد سعيد بأن الناقد الإنجليزي ماثيو أرنولد يستخدم كلمة "غريب" ليصف الناقد الذي هو "شخص ليس ثابتا في طبقة محددة بل هو على الأصح يسير على غير هدى. والحنين الدائم إلى ماض وأرض وثقافة لم تعد كلها موجودة في المنفى وثقافته وحالته الوجودية. المنفى انقطاع عن الأرض الصلبة التي كانت توفر للمرء الهوية وصلابة الإحساس بالأمن والطمأنينة، لذلك يشعر المنفيون بالحاجة الملحة ليعيدوا تشكيل حياتهم المدمرة من خلال رؤية أنفسهم كجزء من أيديولوجيا ظافرة أو أمة حية. قائلا إن النفي والطرد في التاريخ القديم كان عقابا مروعا للشخص المنفي لأنه كان يعني سنوات من التشرد الذي لا هدف له بعيدا عن العائلة والأمكنة التي ألفها المرء. وحين يقارن معنى المنفى في الحاضر بمعناه في الماضي يشير إلى تحول المنفى من تجربة شخصية إلى تجربة جماعية أصابت شعوبا وأعراقا بكاملها، "9" بذلك يجمع المنفي المعاصر بين تجربة المنفى الشخصية ما قبل الحديثة وتجربة الاقتلاع التي جلبها الاستعمار الحديث لشعوب بكاملها. فهو غير متوائم مع مكان إقامته الجديد وليس باستطاعته في الوقت نفسه أن يتخلص من مكانه القديم؛ وبقدرته أن يكون مقلدا ماهرا [لأبناء المكان الجديد] وأن يكون منبوذا سريا من جهة أخرى. في عدد من مقاطع مقالته المثيرة للاهتمام (عقل الشتاء)، والتي يمكن ردها بسهولة إلى تجربته الشخصية كمثقف منفي ومهاجر، ومنتقلا من سياق التجربة التاريخية للمنفى إلى مجاز الكتابة الذي يحله محل الوطن. يقول سعيد "إن تأملات أدورنو [حول المنفى] يغذيها اعتقاد جازم بأن البيت الوحيد القائم الآن في هذا العالم، ص: 184) وينقل عنه قوله: "إن من المناقبية الأخلاقية أن لا يشعر المرء بالراحة والانتماء في أي بيت. " ويعلق سعيد على ذلك بأن كلام أدورنو يعني أن وقوفنا على مبعدة من بيوتنا، يعني أن علينا أن ننظر إلى ما حولنا "بإحساس المنفي بالتجرد وعدم التحيز. يرجّع سعيد صدى كلام أدورنو بخصوص المنفى في تقديمه لكتاب "تأملات في المنفى". ونحن نعثر في ذلك التقديم على خلاصة رؤيته لمعنى المنفى، وفي محاضرات ريث (تمثيلات المثقف) بمهمة المثقف الذي يرفض استخدام رطانة المتخصصين، وـ انطلاقا من التصور نفسه ــ يرفض طمأنينة الانسحاب وعدم الانخراط. وهو يضيف إلى تلك الرؤية ما يجعلها نوعا من الالتزام السياسي والثقافي بالتغيير وتحرير المنفي وزميله المقيم من عبء الرؤية العرقية، وهو يشدد على ما يسميه في مواضع أخرى من كتابته "القراءة الطباقية" Contrapuntal Reading للنصوص والتجارب، مشددا على قراءة تتنكب بلاغة اللوم Rhetoric of Blame وتلجأ إلى التأويل فيما يتعلق بتجارب الارتطام الكبرى بين الشعوب والأعراق. يقول سعيد: "لقد جادلت دائما أن بإمكان المنفى أن يولد الحقد والضغينة وكذلك الإحساس بالفقد واللوعة، فإن ما يتذكره المرء من الماضي وكيفية تذكره هو ما يحدد الطريقة التي نرى بها المستقبل. يقيم تحديد سعيد لمعنى المنفى صلات نسب مع وصف فرانز فانون للمنفيّ، فالأخير يعد المنفى انسحابا نرجسيا من العالم إلى شرنقة الذات"13"، وبهذا المعنى فإن فانون يستخدم المنفى استخداما مجازيا في تحليله لعبء الاستعمار وضغطه على الذات السوداء. "هو عبد أسطورة الأسود التلقائية الكونية. " (ص: 25) إن الصورة التي يرسمها المنفي الأسود لنفسه هي بهذا المعنى صورة صكها الغرب والثقافة البيضاء للأسود، محددا ناشئا عن الهجرة القسرية أو الطرد المبرمج من الوطن، والذات المشروخة لأسباب تتصل بالتجربة الكولونيالية للشعوب المستعمرة في القرون الثلاثة الأخيرة. وهو الشيء نفسه الذي يفعله هومي بابا حين يشدد على أهمية المجاز في تجربة المنفى؛ حيث يرى بابا أن عددا كبيرا من الشعوب الحديثة بدأ رحلته في تكوين القوميات خلال القرن التاسع عشر، ما ملأ الفراغ الذي تركه غياب الأوطان بلغة المجاز. إن المنفى يدخل في تعريف المثقف ويصير المعنى المجازي للمنفى شكلا من أشكال الوظيفة الرسالية، أو وصفا محايدا لهذه الوظيفة في قراءة جان عبدول محمد لأنواع المثقفين الذين يسميهم مثقفي الحدود Border Intellectuals. وكل واحد من هؤلاء الأربعة يتخذ موقفا خاصا به من ثقافته الأصلية والثقافة المضيفة التي انتقل إليها. "16" وهو يصك تعريفا لما يسميه مثقف الحدود المحايد Specular Border Intellectual قائلا إنه ذلك المثقف "العارف بثقافتين بصورة متساوية، فإن مثقف الحدود المحايد يخضع تلك الثقافات لعملية تفحص تحليلية بدلا من أن يقوم بالدمج بينها؛ إنه يستخدم فضاءه الثقافي البيني كنقطة انطلاق ليعيد، وهو عندما يحلل حالة إدوارد سعيد يقرأ وضعه كمثقف منفي ليؤطره في سياق تعريفه لذلك النوع الخاص من مثقفي الحدود، واصفا إعجاب سعيد بمثقفين من طراز جوزيف كونراد وتي. لورنس وإريك أورباخ ولويس ماسينيون بأنه ينسجم مع كون هؤلاء جميعا مثقفين من الطراز نفسه. (ص: 98) ويشدد جان محمد على الطبيعة المرآوية المحايدة"17" لاصطفاء سعيد لأورباخ، إن سعيد كما يقول جان محمد يخطئ في التعرف على الخلافات الجوهرية بين عمله وعمل أورباخ، للتمييز بين المهاجر والمنفي يقول جان محمد إنه في الوقت الذي يقوم فيه "كل من المنفي والمهاجر بعبور الحدود بين مجموعة قومية أو اجتماعية وأخرى، إن النوستالجيا الخاصة بالمنفى (وهي نوستالجيا بنيوية أكثر من كونها خاصية فردية) تدفع الفرد في العادة لكي يكون غير مبال بالقيم والخصائص المتعلقة بالثقافة المضيفة؛ موضعة نموذج عالم الأنثروبولوجيا فيكتور تيرنر الذي يستخدم تعبير الفضاءات البينية Liminal Spaces للتعبير عن نوع من العبور من وضعية اجتماعية إلى أخرى، وتستنتج هندرسون أن استخدام هذا النموذج لدراسة ما أنجزه المنفيون والمهاجرون واللاجئون من إبداعات وآداب يجعلنا نرى كيف يدفع النفي والعبور إلى أرض وثقافة جديدة هؤلاء إلى تشكيل معايير ورموز ونماذج غير تلك التي عملوا وفقا لها في الوطن الأم. انطلاقا مما سبق نستطيع القول إن مفهوم أدب المنفى قد خضع خلال الربع الأخير من القرن العشرين لتحولات وتعديلات عديدة، وطرح مفاهيم مثل الأصل والقومية والآداب الوطنية على بساط البحث مجددا. بوابة النظرية الأدبية ليصبح من بين المفاهيم الأساسية التي تشكل ما يسمى آداب ما بعد الاستعمار، بوصف تجربة المنفى عنصرا مشكلا للهوية الخاصة بكل من المستعمِر والمستعمَر؛ فالرحلة باتجاهات متعاكسة جزء لا يتجزأ من تجربة الغزو الاستعماري الحديثة. فما أضافه فرانز فانون وألبير ميمي وإدوارد سعيد وهومي بابا وغاياتري تشاكرافورتي سبيفاك وعبدول جان محمد، في مقطع مثير وكاشف في مقالته "عقل الشتاء" يقول إدوارد سعيد: "لا يمكن أن يكون المنفى حالة من الشعور بالرضا، هو "عقل الشتاء" حيث تكون عاطفة الصيف والخريف، شديدة القرب لكنها ليست في المتناول. لربما يكون الكلام السابق محاولة للقول بأن الحياة في المنفى تسير وفق أجندة مختلفة، فهي أقل توافقا مع الفصول وأقل استقرارا من الحياة في الوطن. المنفى هو الحياة التي نعيشها خارج النظام المعتاد. 2. يرد في كتاب العين للخليل بن أحمد الفراهيدي أن نفي الشيء يعني تنحيته، وجاء في تهذيب اللغة للأزهري: نفى ابنه: جحده، وانتفى فلان من فلان وانتفل منه إذا رغب عنه أنَفاً واستنكافاً. ونفت الريح التراب نفياً ونفياناً: أطارته. وفي الحديث: المدينة كالكير تنفي خبثها أي تخرجه عنها، يقال: نفيته أنفيه نفيا إذا أخرجته من البلد وطردته. وجاء في المعجم الوسيط: نفي الشيء: نحاه وأبعده. يقال: نفى الحاكم فلانا: أخرجه من بلده وطرده. ويقال: نفت السحابة ماءها: أسالته وصبته. ومن الواضح مما أوردته في معنى "النفي" و"المنفى" في المعاجم العربية أن الكلمة ذات ظلال ودلالات سلبية في الأغلب،