كان مِنْ حُسْنِ تَدْبِيرِ القائمين على مَدْرَسَتِنا أنهم خَصَّصوا لنا ساعة في الأسبوع للأشغال اليدوية، وتلك الساعة كانت من أمتع الساعات عندي ، فقد كان لنا مَشْغَلٌ مُجهز بأحدث أدوات النجارة، والحفر في الخشب وتجليد الكتب . وَلَكُمْ كان يُسْعِدُني أن أنسى نَفْسِي إذ أَنكَب بكلِّ فِكْرِي وَقَلْبي وعضلاتي على خشبات في يدي ، أنا بالمنشار وآونة بالقدوم أو بالإزميل، فإذا بها تؤول بالتدريج منضدة أو إطارا لمنظر. وما كان أطيب العَرَقَ يتصبب من جبيني فأمسحه بمنديلي أو بيدي مثلما يفعل الفلاح في حقله والعامل في مَعْمَلِهِ ! إنني أصنع من أشياء موجودة أشياء لم يكن لها وجود، فلا أنتهي منها حتى أعود أتأملها، وكانت خالية من العيب؛ أشاعت في فؤادي البهجة والغبطة والتفاؤل . فنان من يصنع المحراث ، ومُبْدِعٌ من يستنبت بالمحراث شتى البقول والحبوب والثمار ، ومَاهِرٌ مَنْ يعْزِلُ الصُّوفَ فَيَحُولُ منه خيمةً أو بساطا، أو القطن فيصنع منه عباءة أو قميصا ، ومُبْتَكِرٌ من يصوغ من الفضة أو الذهب خاتمًا أو قُرْطا كم من طالب ما لَمَسَتْ يده المِعْوَلَ أو المِنْجَلَ، ولا هي تستطيع أن تَدُقَّ مسمارا في حائط،