وأحياناً بالجدل الذي لا ينتهي حول كون الترجمة فنّاً أو علماً. والسبب دائماً هو أن ثمة فرقاً تتباين درجته من مترجم إلى آخر بين النصّ الأصلي والنصّ المترجم. فمن الواضح أن النصّ الأصلي كثيراً ما يفقد شيئاً من خصائصه في اللغة الأخرى إن لم يكن نصّاً إخبارياً خالصاً أي informative باللغة الإنكليزية. يهدف النصّ الإخباري عادة إلى نقل معلومات موضوعية لا تخضع للآراء والأهواء مثل: - يبدأ الماء بالغليان عند درجة 100 مئوية أو مائتين واثنتي عشرة 212 فهرنهايت. ولو أن المترجم يضطرُّ أحياناً إلى ابتكار كلمات جديدة من داخل لغته، أو إلى استعارة كلمات من اللغة الأجنبية، واستيراد المصطلحات أمرٌ شائع في اللغات كلها. أما كلمة "المئوي" فهي كلمة عربية تماماً من حيث الاشتقاق ولو أنها كانت نادرة الاستعمال في اللغة العربية السابقة لعصرنا هذا. و grade أي درجة. وأنا أذكر هذه المعلومة المعروفة للقول إن كلمة "مئوى" مثال على تكييف كلمة في اللغة لاستيعاب معنى جديدٍ نسبيّاً يَنسِب درجات الحرارة إلى نظام معيّن لتمييزه عن نظام آخر. وقد يكون من المفيد في هذا السياق أن أذكر أن الإشارة إلى درجات الحرارة وفق هذا النظام المئوى ما عاد يطلق عليه نظام الـ centigrade باللغة الإنكليزية بل نظام Celsius إشارة إلى اسم مبتكره العالم السويدي أندَرْس سِلْسْيُس (1701-1744). غير أن اللغة العربية حافظت لحدّ الآن على كلمة "مئوي" ولم تستورد كلمة "سِلْسْيُس" بعد لغرابتها وعدم الحاجة إليها . ومن أمثلة التعديل الذي يجري في اللغة القومية بتأثير اللغات الأخرى ما جرى لكلمة "القرن" التي استقرّ معناها في الوقت الحاضر في سياق الوحدات الزمنية على مائة عام لأن القرن في اللغات الأوروبية مشتقٌّ من كلمة لاتينية هي كِنْتُم centum أي مائة، وأن العُرف يسمح له باستيراد الكلمات التي لا وجود لها بلغته دون تعديل، أو بتعديل طفيف يقتضيه النظام الصوتي والبنيوي بلغته القومية. ولنأخذ كلمة "بلغم" على سبيل المثال. هذه الكلمة تعرَّبت إلى درجة يصعب معها أن يخطر في ذهن العربي العادي أنها كلمة مستعارة من كلمة يونانية أصلها phlegein بمعنى "يحترق" أو "يشتعل"، com/humor هذا العرض السريع لأصل كلمة "بلغم" يشير إلى أن المترجمين القدماء للطبِّ اليوناني مارسوا ترجمة المصطلحات بشقّيها: الاستيراد واستعمال مصادر اللغة القومية. فقد استوردوا كلمة "بلغم" مع تعديلات تناسب أصوات اللغة العربية، ولكنهم كيّفوا فعلي الخلط والمزج ليدلَّا على فحوى النظرية القديمة القائلة إن الصحَّةَ نِتاج النسب الصحيحة من السوائل الموجودة في الجسم، نأتي الآن إلى النصوص غير الإخبارية، لا يسمح المجال للتمثيل على مشكلات الترجمة في هذه الحقول جميعاً، ميَّز رئيسُ هيئة التحرير معالي الأستاذ الدكتور عيد الدحيّات في تقديمه للترجمات الثلاث بين طريقتين في الترجمة: "الترجمة الحرفية التي تُعنى بنقل معاني المفردات حسبُ. وأحسب أن الترجمة الحرفية تنطبق على النصوص العلمية أو ما دعوتُه بالنصوص الإخبارية. وما تختزن عباراتُه من ظلال المعاني المستترة ولطائفِ اللغة وجماليّاتِها. From fairest creatures we desire increase هل نعدُّ ما فعلته الدكتورة فطينة والدكتور جعفر خيانةً للنصّ؟ يعتمد الجواب على ما أراد كلٌّ منهما أن يحقّقه. ونحن في العادة نقرأ قصيدة كهذه دون مقارنة الترجمة مع النصّ الأصلي لأن ذلك سيفسد الشعر ويظهر العيوب. The Great Sea: A Human History of the Mediterranean تأليف داوود أبو العافية، فالدلائل كلُّها في الكتاب تشير إلى أن المؤلِّف الذي يعمل في جامعة كيمبرج يهودي. أيها الرب الإله، فعلائم الجهل كثيرة في ترجمة الكتاب، وأوّل ما نلاحظه في هذا الكتاب أن عنوانه العربي استعار كلمة أجنبية ليست هي كلمة Cyber المستخدمة في العنوان الأصلي، بل من كلمة تكمن في خلفية الموضوع هي cybernetics التي أعطتنا كلمة السِّبرانية التي فضّل المترجم أن يضيف لها ياءً من عنده تفادياً لاستعمال الكسرة تحت السين، واستعمال كلمة "سيبرانية" (بالياء بعد السين) أو "سِبرانية" (بالكسرة تحت السين) مثالٌ على ظاهرة شائعة لدى المترجمين، فلو كلَّف الدكتور لؤي عبد المجيد نفسه بالبحث قليلاً لوجد أن كلمةcyber وكلمة cybernetics تعنيان نظامَ التحكُّم، وسأتناول فيما يلي عدداً من الأخطاء ذات الطابع المتكرِّر عند الدكتور لؤي عبد المجيد وغيره. أو ما يدعى register باللغة الإنكليزية. لا سيّما تلك المستعملة في الولايات المتَّحدة، المقابل الرسمي لعبارة war games هي military exercises أي التمارين التي نعرفها نحن "بالمناورات العسكرية" رغم أن كلمة "المناورات" مستوردة من كلمة maneuvers. وعن ناسا، والأنروا التي لا تعكس أوائل أحرف الكلمات المقابلة في العبارات العربية. والأحرف الأولى منها لا تعطينا ما يمكن أن يشكِّل كلمة تلفظ معاً، بينما يمكن أن تلفظ الأحرف الأولى من المقابل الإنكليزي لاسم المنظمة وهو Arab League Educational, بينما لا يرد مقابل لهذه الكلمة في الاسم العربي للمنظَّمة. https://www. thefreedictionary. com/wizardry ومن الواضح من هذين الشرحين أن الكلمة في سياق غير سياق الشعوذة تدلّ على المهارة الفائقة - في استعمال الحاسوب أو في العزف على البيانو، ترجمة يوسف بن عثمان، وفيه نلاحظ أن الترجمة خضعت لمراجعة شخص ثانٍ غير المترجم، استخداماً يؤثّر على بنية الكلمات العربية. أو مع الاسم لتنفِيَ جنسه. وهي في الحالتين كلمة مستقلَّة بذاتها. وهي في كثير من الأحيان ليست سوى بديل مستورد لكلمة "غير" الطبيعية كما في كلمة "اللانهائي" في عنوان الكتاب، لكن "لا" هذه ليست جديدة كلّ الجدّة، فقد وردت في كلمة "اللاأدرية" وكلمة "اللافقاريات" وكلمات أخرى قليلة، سأتناول الآن عدداً قليلاً من مشكلات هذه الترجمة اختصاراً للوقت تحت عناوين مناسبة. بل أقصد الطريقة غير المعتادة لكتابة كلمات معيّنة. يرد صوت الـ g كما في كلمة go في المقابل العربي لكلمة English. أما إساءة لفظ الأسماء ("جانات" بدل "جانِت"، ثانياً- الولع بالمصطلحات الأجنبية رغم وجود مقابلات عربية معتمدة: مشكلة المصطلحات مشكلة دائمة في الثقافات كلها لأن ما يميِّز ثقافة عن أخرى وجود مصطلحات في إحداها غير موجودة في سواها، والأمة العربية في الوقت الحاضر تمرُّ في حقبة من التاريخ تجد لزاماً عليها أن تستورد كمّاً هائلاً من المصطلحات عندما لا تجد مرادفات قريبة من داخلها للمصطلحات الأجنبية. البراديغم: النموذج / الأنموذج – اللفظ في الإنكليزية ﭘﺎراديْم الثيوريا: النظرية البراكسيس: التطبيق العملي الكوسموس: الكون – اللفظ في الإنكليزية كوزموس وليس ثمة من داعٍ لاستيراد هذه الكلمات ما دامت ترجمتها ممكنة. - فبالكاد تفصل مائة سنة. ص 40): ليس في العربية اسم هو "الكاد". - ترجمة كتاب كوبرنيكوس بعنوان "في ثورات الأفلاك السماوية" غير صحيحة خدعت فيها كلمة revolutionibus مترجمَنا فظنَّ أنها تعني revolutions (ثورات) بينما هي تعني "دَوَران" من الفعل revolve (يدور). - الحطّ التامّ من قيمة الوجود (ص 44): هذه ترجمة تفسد المعنى. وهي ترجمة غير صحيحة لأنها تخفي المقصود، وفيه إشارة إلى الطريقة السقراطية في ادِّعاء الجهل وطرح الأسئلة لاستخراج الأجوبة الصحيحة من محاوريه. وقد تكون عبارة جهلُ العالـِم أقرب إلى الصحَّة. - "ساحة الله العظيم. رابعاً- الاشتقاقات المتعسِّفة: - تحيين المراجع (ص 7): لم أفهم المقصود بكلمة "تحيين". لكن يبدو أن المترجم يترجم كلمة literature ترجمة حرفية، والترجمة الصحيحة لهذه الكلمة في سياق البحث العلمي هي الكتابات أو البحوث المنشورة. - "عضواني" مقابل organistic: هل "عضواني" أفضل من "عضوي"؟ - ترييض الطبيعة (45): أكاد أجزم بأن هذه العبارة لن يفهمها أحد في العالم العربي دون إعطاء أصلها الإنكليزي، ولم أسمع بعد بقانون صدر في أيٍّ من البلاد العربية يفرض على المترجم أن يبتكر كلمة واحدة مقابل الكلمة الواحدة في اللغة الأصلية. ولو قلنا: "إخضاع الطبيعة لعلم الرياضيّات" لما خلقنا مشكلة للقارئ بفذلكة تشبه فذلكة كمال أبو ديب الذي ترجم foregrounding بالتأريض الأمامي! - ومن هذا كثير. والآن: هل الترجمة فنّ؟ سيُسعِد المترجمَ أن يوصَفَ بأنه فنّان، ولكنه سيظل يشعر بأن جهوده المضنية في مصارعة الكلمات والجُمل، وهذا شيءٌ مألوف في الغرب، فمن أشهر الترجمات تلك التي صنعها جورج ﭼﺎﭘﻤﻦ لملحمتي هوميروس وامتدحها جون كيتْس في سونيتة مشهورة عنوانها On First Looking into Chapman’s Homer، أي "عندما رأيت ترجمة ﭼﺎﭘﻤﻦ [لملحمتي] هوميروس للمرّة الأولى. وترجمة علي أحمد باكثير لمسرحية روميو وجولييت، وعدد من الترجمات الشعرية لرياعيّات عمر الخيّام، إنها قابلةٌ لأن تُدرَسَ وتُدرَّسَ مثل أيِّ ظاهرة طبيعية أو ثقافية، ومثلما أن مدرِّس مادَّة التأليف الموسيقي في معهد الموسيقى لا يجب أن يكون مؤلِّفاً موسيقيّاً بالضرورة. وقد يعود بعضها لرغبتهم في نقل نصٍّ أعجبوا به لأهميته أو لجماله إلى لغتهم. والمثابرةِ، والثقافةِ الواسعةِ، والاستعدادِ الدائمِ للبحث الدؤوب، قادرةٌ على التعبير عن الأفكار كلِّها بكلمات أصيلة فيها أو بكلمات تستعيرها عند الحاجة من لغات أخرى. أو تركيب الجمل،