## الفصل السادس: موقف الإمبراطورية البيزنطية من البرابرة في القرن السادس كان جستنيان الأول (٥٢٧ - ٥٦٥) حاكماً فعلياً للإمبراطورية قبل توليه العرش رسمياً في عام ٥٢٧م، وقد اكتسب خبرة واسعة في شؤون الحكم والإدارة. كان جستنيان معروفاً ببساطته، وتودده للناس، وعمل ليل نهار حتى أطلق عليه لقب "الإمبراطور الساهر". كما كان يميل إلى التحكم في كل شيء، وعدم قبول أي قرار إلا قراره. ورغم ظاهره الحازمة، إلا أنه كان شديد التأثر بآراء حاشيته، خاصة زوجته ثيودورا. ## ثورة نيقا (النصر) ٥٣٢م في عام ٥٣٢م، أي بعد خمس سنوات من حكمه، واجه جستنيان ثورة داخلية كادت أن تسقط عرشه. عرفت هذه الثورة باسم "ثورة نيقا" (أي النصر باللغة اليونانية). نشأت هذه الثورة من انقسام سكان القسطنطينية إلى أربعة أحزاب رياضية، كل حزب يدعم لونًا معينًا لسائقي عربات السباق في الهيبودروم (المكان الذي كان يتم فيه تتويج الإمبراطور حتى نهاية القرن السادس الميلادي). مع مرور الوقت، تحول هذا التضامن الرياضي إلى تضامن اجتماعي وديني، فأصبح في العاصمة حزبان: الزرق والخضر. حزب الزرق دعم المذهب الأرثوذكسي، بينما دعم حزب الخضر القول بالطبيعة الواحدة. تطور الأمر ليشمل السياسة، حيث أصبح حزب الزرق يتظاهر ضد الإمبراطور أناستاسيوس، ومع اعتلاء جستنيان عرش الإمبراطورية، استمر الزرق في معارضته. زادت المشكلة تعقيداً بسبب تعاطف ثيودورا مع الخضر، مما أدى إلى صراع طبقي امتد إلى البلاط الإمبراطوري. أدت عدة عوامل متشابكة إلى إشعال نار الثورة، منها العوامل الدينية والطبقية، وعدم رضا البعض عن اعتلاء جستنيان العرش. كان العامل المباشر هو تجاوز يوحنا القبادوقي وتريبونيان (وزير الخزانة وقاضي الإمبراطورية على الترتيب) في ابتزاز الأموال من الشعب، وهو ما أثار غضب الزرق والخضر. اندفعت الحشود إلى الهيبودروم، ودمرت وحرقت المباني، وصرخوا "نيقا" (أي النصر)، وهو ما أعطى اسمًا للثورة. تطورت الحركة بسرعة، وانضم إليهم سكان الريف بسبب الضرائب الفادحة، وهدد الثوار بعزل الوزراء. حاول جستنيان مفاوضة الثوار، ولكنه تأخر. زادة حدة الصراع بانضمام بعض النبلاء إلى الثورة، ووصلت الأمور إلى حد تتويج هيباتيوس (ابن أخ الإمبراطور أناستاسيوس) إمبراطوراً. أصبح جستنيان محاصراً في القصر، ولم يبق لديه سوى أربعة آلاف من الحرس الإمبراطوري وحوالي خمسمائة من الخيالة. اختار جستنيان الحرب، ووضع بلزاريوس على رأس القوات للقضاء على الثورة. اشتعلت المعارك في الميدان الكبير، وأدت إلى احتراق كنيسة آيا صوفيا وكنيسة سانت إيرين. أقنعت الإمبراطورة ثيودورا زوجها بعدم الفرار، وهددت بإشعال النار في القصر، مما دفع جستنيان إلى مواجهة الثوار. نجح بلزاريوس في حصار الثوار داخل الهيبودروم، وانتهى القتال بمقتل آلاف من الثوار، ويقال أن خمسة وثلاثين ألف رجل قتلوا خلال الستة أيام التي دامت فيها الثورة. ## الإصلاحات الداخلية ظهر في بعض أجزاء الإمبراطورية، خاصة الشرقية، عدد من أصحاب الأملاك الكبيرة الذين اغتصبوا أراضي الإمبراطورية وسيطروا على أهاليها. لم تقف الحكومة البيزنطية مكتوفة الأيدي، وواجهت هذا الأمر بمنع الملاك من الإرث أحياناً، وإجبارهم على وقف أملاكهم لصالح الإمبراطورية. كان الأمر أصعب في حالة أملاك الكنائس والأديرة، فكانت الدولة تلجأ إلى اتهام الدير بأكمله بالزندقة لتحويل موارده إلى خزانة الدولة. لم يتمكن جستنيان من القضاء على طبقة الملاك، ورغم الجهود الكبيرة التي بذلتها الدولة، فقد زادت المشكلات الداخلية بسبب الزلازل، وانتشار الأوبئة، مما أدى إلى هجرة السكان، وانتشرت المجاعة. قرر جستنيان إصلاح عيوب إدارة الدولة، و رأى أن أفضل طريقة هي تقوية الحكومة المركزية واختيار أفضل الرجال للقيام بشؤون الحكم. ركز على ضبط موارد الدولة، وطلب من الأهالي دفعها بانتظام، والتزم الجباة بمعاملة الأهالي بالحسنى، والعدل. لجأ جستنيان إلى مهادنة بعض الدول المعادية وشراء رضاهم بالأموال لخفض نفقات الحرب. كما قلل من عدد الموظفين وزاد من رواتبهم، وأعاد نظام الحكم المحلي إلى ما كان عليه قبل عهد قسطنطين. أنشأ جستنيان نظاماً لربط المقاطعات الغنية بالفقيرة، و عاد إلى سياسة دقلديانوس بربط الأولاد بمهنة آبائهم، ووضع رقابة شديدة على التكتلات الرياضية والسياسية. اهتم جستنيان بأمر العاصمة، فمنع أي شخص من دخولها دون عمل، وعين حكام للنظر في حوادث السرقات والاغتيالات. أصدر تعليمات مشددة إلى الحكام بالمحافظة على الطرق والجسور وخزانات المياه وأسوار المدن، مما أدى إلى إنشاء الطرق الجديدة، الجسور وحفر الآبار وبناء الحمامات . أعاد جستنيان بناء كنيسة آيا صوفيا عام ٥٣٢م بعدما أصابها من دمار، فضلاً عن العناية ببناء عدد من الكنائس والمستشفيات. ## موقف جستنيان من التجارة الخارجية أراد جستنيان تحرير تجار الإمبراطورية من احتكار الفرس للتجارة، حيث أن الفرس كانوا يحتكرون كل أنواع التجارة الآتية من الهند والصين مثل الحرير والبخور والأحجار الكريمة. سعى جستنيان إلى الوصول إلى مركز هذه التجارة في مدينة بخارى عبر البحر الأسود وبحر قزوين، كما اتصل بملك الحبشة لنقل تجارة الصين إلى البحر الأحمر، وشجع تجار مصر والشام على استيرادها. ## الإصلاحات القانونية رأى جستنيان أن أفضل وسائل جمع المال من الأهالي هي حمايتهم من ظلم الحكام، فجمع القوانين القديمة، وعهد إلى تريبونيان ولجنة تحت إدارته بهذا العمل. ظهرت مجموعة القوانين، ووضعت قوانين للأحوال الشخصية، وصدر في عام ٥٣٣م المصنف الهائل المسمى بالموجز. استمرت سلسلة مطولة من القوانين التكميلية أطلق عليها إسم القوانين المستجدة، حتى نهاية عهد جستنيان، وهو ما أدى إلى تنظيم القانون البيزنطي بشكل كامل. ## حروب جستنيان مع الفرس وقع الصراع بين الفرس والبيزنطيين بسبب محاولة تسوية مشكلة الحدود عند مدينة لازيكا الغنية بالنفط. نجح بلزاريوس في وقف تقدم القوات الفارسية، وتجددت الحرب مع تولي كسرى أنو شروان العرش الفارسي. قبِل جستنيان الصلح مع الفرس ليتفرغ لمشاريعه في الغرب، وأمن الحدود الشرقية بإقامة تحالفات مع أمراء القوقاز وملك الحبشة. تجددت الحرب مرة أخرى مع الدولة الفارسية في عام ٥٤٠ م، بسبب انتصارات جستنيان في الشمال الإفريقي وإيطاليا، وتشجيع القوط للملك الفارسي لمحاربة الإمبراطورية البيزنطية. استمرت الحرب، و انتهت بعرض جستنيان الصلح على كسرى. لم يدم الصلح طويلًا، فهاجم كسرى أملاك الإمبراطورية في عام ٥٤١ م، مستهدفاً المناطق الأرمينية وشرقي البحر الأسود. استمرت الحرب حتى عقد هدنة بين الطرفين في عام ٥٤٤ م، وتعهد كسرى بمراعاة حقوق المسيحيين من رعاياه، وأن يمنع جستنيان المبشرين المسيحيين من التبشير في الأراضي الفارسية، ودفع جستنيان جزية سنوية. ## حروب جستنيان في الغرب كان القسم الغربي من الإمبراطورية تحت سيطرة الجرمان، فكان القوط الشرقيون يحكمون في إيطاليا، والقوط الغربيون في أسبانيا، والفرنجة في غالة، والوندال في الساحل الإفريقي، والأنجلوسكسون في الجزر البريطانية. ركز جستنيان على استعادة أملاك الإمبراطورية في الغرب، ونجح في إعادة فتح بعض البلاد مثل إفريقية وإيطاليا. ## جستنيان والوندال بدأت أحداث فتح إفريقية في عام ٥٣٣ هـ عندما سار بلزاريوس على رأس ستة عشر ألف محارب، وذلك بعدما عزل جليمر ملك الوندال هيلدريك عن العرش. نزلت الجيوش البيزنطية على الساحل الإفريقي دون مقاومة، واتخذت طريقها إلى العاصمة قرطاجة. انتصر بلزاريوس في معركتين، وسقطت قرطاجة، و سلم جليمر نفسه لبلزاريوس. عاد الساحل الإفريقي لحكم الإمبراطورية الرومانية، وعاد بلزاريوس إلى بلاده بعدما ترك جيشاً صغيراً للسيطرة على البلاد. أعاد جستنيان الأحوال إلى ما كانت عليه قبل الغزو الوندالي، وأعاد الأراضي والمزارع إلى أصحابها الرومان. واجهت الإمبراطورية صعوبات بسبب تذمر الناس من الضرائب، وخروج البربر من حصونهم في غارات للسلب والنهب. ولكن بفضل القادة البيزنطيين، وتنازع قبائل البربر، تمكنت القوات البيزنطية من السيطرة على الموقف في عام ٥٤٨ م. ## جستنيان والقوط الشرقيون خطط جستنيان في عام ٥٣٦ م لغزو إيطاليا، بحراً وبرا، وسقطت جزيرة صقلية دون مقاومة. هدف بلزاريوس إلى الاستيلاء على نابولي، ورغم استبسال حاكم القوط في الدفاع عنها، إلا أنه لجأ إلى التفاوض. رفض بلزاريوس عروض حاكم القوط، وسقطت نابولي في أيدي قوات بلزاريوس. خلع الجيش القوطي حاكماً وعيّنوا مكانه ويتيجز. انسحب ويتيجز إلى رافنا لينظم قواته، وأعطى الفرصة للقوات البيزنطية للسيطرة على مدينة روما. أظهر جستنيان استعداده للصلح مع القوط، ولكن بلزاريوس رفض التخلي عن انتصاراته. عُرض على بلزاريوس أن يكون ملكاً للقوط، ولكنه ما كاد يدخل رافنا حتى قبض على وينيجز وحاشيته وأرسلهم أسرى إلى القسطنطينية. ثار القوط بزعامة توتيلا، الذي تمكن من السيطرة على سهول إيطاليا. نجح توتيلا في عام ٥٤٩ م من استعادة مدينة روما. أرسل جستنيان حملة ضخمة وعلى رأسها نارسيس، الذي استولى على تحصينات توتيلا في إقليم دالماشيا. انهزمت القوات القوطية في عام ٥٥٢م، و لقى توتيلا مصرعه. استسلمت الحاميات القوطية في جنوب إيطاليا، في عام ٥٥٥م. صمدت فيرونا وبريسكيا حتى عام ٥٦٣م بفضل مساعدات الفرنجة. وانتهى حكم القوط الشرقيين في إيطاليا، وعادت ولاية بيزنطية، حتى الغزو اللومباردي في عام ٥٦٨، الذي استمر حتى عام ٧٧٤م حين خضعت إيطاليا للفرنجة بقيادة شارلمان. ## سياسة جستنيان في أسبانيا استقر المقام بالقوط الغربيين في أسبانيا في عهد ملكهم ثيودريك الأول. تمكن القوط الغربيون من مد نفوذهم إلى مدينة سبتة، ولكن بلزاريوس تمكن من إجلائهم عنها أثناء حروبه مع الوندال. حاول ثيودس استعادة سبتة لتقوية نفوذه ولاشغال قوات جستنيان، ولكن هذه المحاولة فشلت عندما هزمت قوات جستنيان القوط الغربيين في عام ٥٤٤م. اختار القوط ثيوديجيزل ملكا عليهم بعد مقتل ثيودس. رأى جستنيان فرصة للتدخل في أسبانيا، وأصدر تعليماته إلى ليبوروس حاكم الشمال الإفريقي بجمع قواته والعبور إلى أسبانيا. نجح ليبوروس في الاستيلاء على الساحل الجنوبي، بمساعدة السكان الأصليين، وانضمام بعض الثوار إلى جيوش جستنيان. سيطرت القوات البيزنطية على عدد من المدن، مثل قرطاجنه وقرطبة وغرناطة. حاول القوط إجلاء القوات البيزنطية عن أسبانيا، ولكنهم لم ينتصروا إنتصارا حاسما. تم عقد الصلح بين الطرفين، احتفظ بموجبه كل من الطرفين بما تحت يده من أراضي. لم تتمكن القوات البيزنطية من التوسع في أسبانيا بسبب طبيعة البلاد، وانشغال قوات الإمبراطورية بالحرب في جبهات أخرى. يرى بعض المؤرخين أن حملة جستنيان على أسبانيا كانت فاشلة، بينما يرى آخرون أن جستنيان حقق نجاحا بالسيطرة على جانب كبير من أسبانيا. ## نهاية عصر جستنيان لم تتناسب مشاريع جستنيان العظيمة مع طاقة الإمبراطورية المالية، فالعظمة والبذخ والإنشاء والتعمير في طول البلاد وعرضها، فضلاً عن الحرب، تطلبت مالاً كثيراً. مع نهاية عهد جستنيان عجزت الدولة عن القيام بالتزاماتها، فتوقفت إصلاحاته وتناقص عدد قوات الجيش. لجأ جستنيان إلى تغيير سياسته المالية، وبدأ بزيادة الضرائب، مما أدى إلى عودة الأحزاب السياسية إلى الظهور مرة أخرى، وقاموا بالاضطرابات داخل العاصمة. رغم هذا، فليس من الصواب أن نحكم على عهد جستنيان بالأحداث الأخيرة في حياته، لأن أهدافه في الاصلاح الداخلي كانت رائعة، ومحاولاته إعادة مجد الإمبراطورية في أوروبا والساحل الإفريقي كان عظيما.