فأحياناً تتخذ القيادة قرارات لا يدرك الجنود كامل أبعادها،  ويكون تحليل الأمور بصورة أعمق؛  لأن القيادة تطلع على أمور لا يراها الجنود،  وتحاول تجنب مفاسد لا يدركها الجندي. والقيادة الحكيمة هي التي تجمع بين الأحلام المطلوبة والواقعية في الأداء،  كل هذه أبعاد قد لا يراها الجندي المتحمس أو المسلم المتلهف لأن يرى الإسلام ممكناً له في الأرض ما بين يوم وليلة،  فالقيادة هي التي تدرك كل هذه الأمور وقد تأخذ قرارات يراها الجنود أحياناً مخيبة للآمال أو يرونها محبطة للنفسيات أو خاطئة سياسياً، فالرسول عليه الصلاة والسلام قبل برد المسلم الذي يأتيه من مكة إلى المدينة مع خطورة ذلك عليه،  لكن لماذا قبل بذلك؟ لأنه ينظر إلى المصالح مجتمعة،  فوجد أن المصالح أعلى بكثير من المفاسد،  مع الإقرار التام أن أمر إعادة المسلم إلى مكة أمر فيه مفسدة،  وهذا الأمر يحتاج إلى حكمة وإلى ورع وإلى علم، وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم قَبِلَ قَبْلَ ذلك بأمور لا يحبها،  ولم يقبلها قبل ذلك المتحمسون من الشباب،  ثم تبين أن الخير كان في قراره صلى الله عليه وسلم،  فمثلاً: الرسول عليه الصلاة والسلام أمر بعدم الرد على من آذى المسلمين وعذبهم -بل وقتلهم- في العهد المكي،  وهذا كان حكماً شرعياً قبل به الرسول عليه الصلاة والسلام وعموم الصحابة في ذلك الوقت،  لكن بعض المتحمسين من الصحابة لم يقبلوا بهذا الأمر،  وقالوا: لم نعطي الدنية في ديننا؟ ولم لا نرد على المشركين؟ ولم كذا وكذا؟ ثم ظهر لهم بعد ذلك الخير في قرار الشرع.  وقاموا بأمور كان من الممكن أن تفسر على أنها نقض للمعاهدة،  ومع ذلك التزم الرسول عليه الصلاة والسلام بسياسة ضبط النفس قدر المستطاع،  وهكذا كان الوضع أيضاً في مواضع كثيرة جداً في السيرة النبوية،  بل لعلنا لا نكون مبالغين إذا قلنا: إنه يكاد يكون مستحيلاً أن تجد قراراً يخلو من أي سلبية،  ومع ذلك الموازنة بين المصالح والمفاسد هي التي تختار قراراً دون قرار. وهذه كلمة جميلة جداً لـ عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه وهو مشهور بالحكمة،  أو الفرق بين الحلال والحرام، المهم في هذا المقام أن تدرك أنه لكي تقوم وتسود وتمكن لا بد من أخذ قرارات تبدو في ظاهرها مؤلمة للمسلمين، ولا بد لكل جندي أن يدرك كل هذه الأبعاد،  وكل ذلك لا يمكن أبداً أن يكون إلا بثقة تامة في القيادة،  وإدراك كامل للعبء الثقيل الملقى على أكتاف القادة،  وبغير هذه العلاقة الوثيقة بين القيادة وجنودها لا يمكن لجماعة أو لأمة أن تقوم.  وأن يدرك الجنود أن القائد قد يختار من الأمور ما قد يحزن الجنود،  ولم يختر هذا الأمر لأنه يرغب في الضرر ذاته أو لأنه متنازل أو مفرط،  إذاً: لابد أن نفهم هذه القاعدة جيداً.