يا من تكسو العقول بنور العلم، وتهدي الأخلاق جميل الأدب، يا من نأتمنك على فلذات أكبادنا؛ فأنت في المدرسة أبًا لهم مع أبيهم. أيها المعلمون: أنتم نور الدنيا وضياؤها، وأنتم عافيتها ودواؤها، أنتم أقمار تنير ظلام الليالي، لُعِنَت الدنيا وما فيها ونجيتم أنتم -ومن تُعلِّمون- من لعنتها، فعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "الدنيا ملعونة، والملائكة وجميع المخلوقات تدعوا لك، فعن أبي أمامة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله وملائكته حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت في البحر ليصلون على معلم الناس الخير" (الطبراني في الكبير)، قال أبو العالية: "صلاة الله الثناء والملائكة الدعاء" (فتح الباري لابن حجر). وإن لك مثل أجر كل طالب علَّمته فعمل بما علَّمته، فعن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من دعا إلى هدى، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا" (مسلم). وبتعليمك الصبيان العلم تمنع عنا عذاب الله؛ يقول ثابت بن عجلان الأنصاري: "كان يقال: إن الله ليريد العذاب بأهل الأرض فإذا سمع تعليم الصبيان الحكمة صرف ذلك عنهم"، قال مروان يعني بالحكمة القرآن (سنن الدارمي). وهذا الحسن البصري يقول: "لولا العلماء لصار الناس مثل البهائم"، ويشرح الغزالي قائلًا: "أي أنهم بالتعليم يخرجون الناس من حد البهيمية إلى حد الإنسانية" (إحياء علوم الدين للغزالي). *** أيها المعلم الفاضل: لك علينا حقوق، فأما حقوقك على الناس فهي كثيرة لا نستطيع هنا حصرها، ومنها: أولًا: أن يجلُّوك ويوقِّروك ويحترموك: يقول طاوس -رحمه الله-: "من السنة أن يوقر أربعة: العالم، والوالد" (المدخل إلى السنن الكبرى للبيهقي)، فمن لم يفعل ذلك فليس من أمتنا؛ فعن عبادة بن الصامت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ليس من أمتي من لم يجل كبيرنا، ويعرف لعالمنا حقه" (أحمد)، وقال أحد الحكماء: "لا يستخف أحدٌ بمن تعلم منه علمًا إلا وضيع خامل أو رفيع جاهل" (محاضرات الأدباء للراغب الأصفهاني)، وكان يُقال: "أربعة لا يأنف منهن الشريف: قيامه من مجلسه لأبيه، وقيامه على فرَسِه وإن كان له عبيد، وخدمته العالم ليأخذ من علمه" (جامع بيان العلم وفضله). ثانيًا: ألا يزعجوك في كل حين وألا يحمِّلوك فوق طاقتك: متأدبين معك بأدب أبي عبيد الزاهد الذي قال عن نفسه: "ما دققت بابًا على عالم قط حتى يخرج في وقت خروجه"، ولقد رأينا كيف كان ابن عباس -رضي الله عنهما- يأتي الصحابي ليتعلم منه فيجده نائمًا فيكره أن يوقظه فيجلس على عتبة داره تسفي الريح التراب في وجهه حتى يستيقظ الرجل فيأخذ منه العلم! واستمعها على لسانه إذ يقول: "إن كان الحديث ليبلغني عن الرجل من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد سمعه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فتسفي الريح على وجهي، فيخرج إلي فيقول: يا ابن عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما جاء بك؟ ما حاجتك؟" فأقول: "حديث بلغني ترويه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" فيقول: "ألا أرسلت إلي؟" فأقول: "أنا أحق أن آتيك" (الحاكم). ثالثًا: أن يعرفوا لك جميلك ويحفظوا لك حقك: فهذا هارون بن زياد يدخل عليه معلمه، فيبالغ في إكرامه وإجلاله، فأجاب: "هو أول من فتق لساني بذكر الله، وأدناني من رحمة الله" (ربيع الأبرار للزمخشري)، ولما حُجِب المعلِّم العتابي على باب المأمون، فكتب إليه: إن حق التأديب حق الأبوة *** عنه أهل الحجاز أهل المروة وأحق الأنام أن يحفـــــــــظـــوها *** ويعــــــوها لأهـــــل بــيــت النبـــوة فدعا به وأحسن صلته، وآلى على الحاجب أن لا يعاود حجبه وزبره. (ربيع الأبرار للزمخشري). رابعًا: أن يحبوك ويحفظوا ودَّك: وهذه قد استفدناها من كلام علي بن أبي طالب إذ يقرر قائلًا: "ومحبة العالم دين يدان بها" (حلية الأولياء لأبي نعيم)، يقول ابن القيم شارحًا: "قوله محبة العلم أو العالم دين يدان بها؛ لأن العلم ميراث الأنبياء والعلماء ورثتهم؛ فمحبة العلم وأهله محبة لميراث الأنبياء وورثتهم، وبغض العلم وأهله بغض لميراث الأنبياء وورثتهم، فمحبة العلم من علامات السعادة وبغض العلم من علامات الشقاوة.