لا ريب فى أن المراحل التى قطعها الشعر العربى حتى استوى فى صورته الجاهلية غامضة، فليس بين أيدينا أشعار تصور أطواره الأولى، وهى تقاليد تلقى ستارا صفيقا بيننا وبين طفولة هذا الشعر ونشأته الأولى فلا نكاد نعرف من ذلك شيئا. نبكى الديار كما بكى ابن خذام ولا نعرف من أمر ابن خذام هذا شيئا سوى تلك الإشارة التى قد تدل على أنه أول من بكى الديار ووقف فى الأطلال. وللقصيدة مهما طالت تقليد ثابت فى أوزانها وقوافيها، من ذلك قصيدة عبيد بن الأبرص الأسدى (١): أقفر من أهله ملحوب . فالقطبيّات فالذّنوب وعلى غرارها قصيدة تنسب لامرئ القيس مطلعها (٢): كأن شأنيهما أوشال ومثلهما فى هذا الاضطراب قصيدة المرقّش الأكبر (٣): فهى من وزن السريع، ما ذنبنا فى أن غزا ملك . من آل جفنة حازم مرغم فإنه من وزن الكامل. وعلى هذه الشاكلة قصيدة عدى بن زيد العبادى (٤): مثل الكتاب الدارس الأحول فهى من وزن السريع وخرجت بعض شطورها على هذا الوزن كالشطر الثانى من هذا البيت: أنعم صباحا علقم بن عدى . أثويت اليوم أم ترحل ويماثل هذه القصيدة فى اختلال الوزن قصيدته (١): وقد أتى لما عهدت عصر ومن هذا الباب نونية سلمىّ بن ربيعة التى أنشدها أبو تمام فى الحماسة (٢): وهو اختلاف حركة الروى فى القصيدة كقول امرئ القيس فى معلقته يصف جبل أبان: فقد ضم اللام فى نهاية البيت، وهى مكسورة فى المعلقة جميعها. وزعم بعض القدماء والمحدثين أن الرجز أقدم أوزان الشعر العربى، وكل ما يمكن أن يقال هو أن الرجز كان أكثر أوزان الشعر شيوعا فى الجاهلية، إذ كانوا يرتجلونه فى كل حركة من حركاتهم وكل عمل من أعمالهم فى السلم والحرب، وعدّ ابن سلام فى طبقاته أربعين من فحولهم وفحول المخضرمين وقد جعلهم فى عشر طبقات وجعل فى كل طبقة أربعة، وأضاف إليهم فقد تفوقت القبائل التى نزلت فى العراق على قبائل الشام والأخرى التى نزلت فى مصر وبلاد المغرب والأندلس، ومثلها المدن فمكة كانت قليلة الشعر (٣)، ولهم فى الإسلام شعراء مفلقون. ولو جاءكم وافرا لجاءكم علم وشعر كثير (٢)». ونحن لا نبالغ مبالغة أبى عمرو، من المعروف أنه يوجد عند الغربيين منذ اليونان أنواع مختلفة من الشعر، وهى فى حقيقتها قصة إلا أنها كتبت شعرا، ويكوّن من ذلك قصيدته، وعند هو راس الشاعر الرومانى فى قصيدته «فن الشعر» التى نظمها فى قواعد الشعر ونقده، وكما هو معروف عن أبان بن عبد الحميد شاعر البرامكة فى قصيدته التى نظم فيها أحكام الصوم والزكاة. فهو فى كل ذلك يغفل نفسه ولا يقف عندها، إنما يقف عند جانب قصصى تاريخى يحكيه أو علمى تهذيبى يرويه أو تمثيلى مسرحى يؤديه، متجردا عن شخصه وما يتصل بذاته وأهوائه وعواطفه. إذ يماثل الشعر الغنائى الغربى من حيث إنه ذاتى يصور نفسية الفرد وما يختلجه من عواطف وأحاسيس، سواء حين يتحمس الشاعر ويفخر أو حين يمدح ويهجو أو حين يتغزل أو يرثى أو حين يعتذر ويعاتب، أو حين يصف أى شئ مما ينبثّ حوله فى جزيرته. وليس هذا فحسب، ويظهر أن الشعراء أنفسهم كانوا يغنون فيه، فهم يروون أن المهلهل غنىّ فى قصيدته: ء لعوب لذيذة فى العناق (١) ببعض الذى غنّى امرؤ القيس أو عمرو ويقول حسان بن ثابت (٣): تغنّ بالشعر إمّا كنت قائله . إن الغناء لهذا الشعر مضمار ولعلهم من أجل ذلك عبروا عن إلقائه بالإنشاد، ويقترن هذا الغناء عندهم بذكر أدوات موسيقية مختلفة كالمزهر والدف وكانا من جلد وكالصّنج ولعله هو نفسه الآلة الفارسية المعروفة باسم الجنك، تغنّى فإن اليوم يوم من الصّبا . ببعض الذى غنّى امرؤ القيس أو عمرو وهو يقصد بعمرو، ويقول حسان بن ثابت (٣): ويقترن هذا الغناء عندهم بذكر أدوات موسيقية مختلفة كالمزهر والدف وكانا من جلد وكالصّنج ولعله هو نفسه الآلة الفارسية المعروفة باسم الجنك، ويروى الرواة أنه كان بمكة قينتان لعبد الله بن جدعان جلبهما من بلاد الفرس وكانتا تغنيان الناس (٦) وفى أخبار غزوة بدر أنه لما نصح أبو سفيان قريشا أن تعود قبل أن يوقع الرسول عليه السلام بها قال أبو جهل: والله لا نرجع حتى نرد بدرا فنقيم عليه ثلاثا وننحر الجزر ونطعم الطعام ونسقى الخمور وتعزف علينا القيان وتسمع بنا العرب (٧).