تُمثّل النسوية نقلة سوسيوإبستيمولوجية مهمة عرفتها المجتمعات الغربية منذ ستينيات القرن العشرين؛ فبعد تاريخ طويل من التعتيم والإقصاء انقلبت مؤشرات الحديث عن المرأة وقضاياها في عصرنا هذا، حيث تحولت من الهامش والابتذال إلى الاعتراف والتأسيس. وأخذت المرأة بذلك مشعل الحديث عن نفسها متجاوزة الإطار الذي سُجنت داخله، لتكون كتاباتها ردّة فعل لسيطرة الخطابات الذكورية، والتي ما فتئت ترسم معالم صورتها وتنحتها كجنس دوني، حتى بالغت بعض خطاباتنا السائدة إلى اعتبارها من بين التابوهات*! أخذت المرأة مشعل الحديث عن نفسها متجاوزة الإطار الذي سُجنت داخله، لتكون كتاباتها ردّة فعل لسيطرة الخطابات الذكورية قد تعود بنا الأدبيات الفكرية لترسبات شكلت هذه الصورة النمطية**؛ إلى جمهورية أفلاطون الذي «لم يخرج عن إطار التراث اليوناني الذي كان يحمل العداء للمرأة، إن لم نقل الكراهية لها»[1] وإلى سياسة أرسطو الذي برر «تسلط الرجال على النساء، لكون الذكر أصلح للرئاسة من المرأة»[2]؛ فالأول أدرجها في طبقة الحيوانات؛ والثاني حصر وجودها في إطار البيت، وأنها أدنى من الرجل وعليها طاعته[3]. يتوالى السياق القاضي بتفوق الرجل على المرأة حتى عصور متأخرة، وما ساعد في استمرار هذا التصورات مصادقة مؤسسات المجتمع والأطر السوسيوثقافية من قوانين وعادات وتقاليد وحتى بعض الديانات التي اعتبرت المرأة خطيئة. لتظهر أولى بوادر محاولات الإطاحة بسيادة الرجل وصرحه، لتستمر مسيرة الكفاح مع أجيال جديدة من أمثال جوزفين بتلر (1828-1906)، الزعيمة إميلين، سيمون دي بوفوار (1908-1986). وفي عالمنا العربي وصلنا صدى إرهاصات النسوية مع هدى الشعراوي (1879-1947)، وفاطمة المرنيسي (1940_1915) ونوال السعداوي (1931-) وغيرهن. إلخ بمحاولات عمدن من خلالها إلى صياغة خطابات جديدة تنصف وتصحح معادلة الرجل والمرأة، إذ إن العلاقة بين الرجولة والأنوثة كما يذهب في ذلك "طرابيشي" ليست مفهوما موجها للعلاقات بين الرجولة والأنوثة فحسب، بل أيضا لعلاقة الإنسان والعالم، هذا العالم الذي ارتأى "كانط" مرة ألا نحصره في «نموذج واحد ولا يجب تجسيده في فرد عيني، بل لابد من نموذج يقابل المفهوم الكوني للفلسفةConceptus Cosmics »[4] يتداخل فيه المعرفي مع الوجودي والميتافيزيقي مع الواقعي، مفهوم كلاني يستغرق كافة الرؤى والتصورات من مختلف الجوانب ومختلف القائلين، فلا وجود لخطاب واحد وقضية يشكلها طرف بعينه. تُسائل هذه الورقة البحثية إذن، النسوية كحركة نشأت في خضم المنابع المعرفية والتراث الغربي، ثم تطوّرت نظرية ليكون امتدادها عربيا، ورواياتها والهدف الذي نرمي إليه هو الكشف عما إذا كانت النسوية فلسفة تندرج من ضمن فروعها ومباحثها، ولها مقولاتها، أم هي لا-فلسفة وبالتالي اعتبارها جنسا أدبيا أو مجرد كتابات أنثوية، لكي تُؤكد حضور أنثويتها! جميع النزاعات والميول الأنانية وعبادة الذات وتفضيلها تستمد غذاءها الرئيس من الوضع الحالي للعلاقة بين الرجل والمرأة والإشكالية التي يمكن طرحها حول ما تقدّم: إذا كانت مباحث الفلسفة منذ أيام أرسطو وما بعده محصورة في الميتافيزيقا، الوجود والمعرفة، إلى أي مدى يمكن اعتبار النسوية فلسفة؟ وهل الأدب والفلسفة طريقان مختلفان لنشاط الإنسان المعرفي، أم قد يحدث أن يكوّنا معا مبحثا طريفا ومجالا يؤسس منافذ ومساحات يلتقي فيها الأدب بالفلسفة؟ أين يمكن موضعة النسوية؟ وكيف نقيّم كتابات السعداوي بين التقليد الغربي الأعمى، وينتشل المرأة من ضحل التهميش والاستبعاد؟ حتى نتمكّن من وضع مقاربات لهذه الأسئلة وغيرها، وتاريخها، لنحدد في الأخير الجوانب المائزة لمن يقول بكون النسوية فلسفة ومن يرى العكس. 1. ما النسوية؟ أ. لغة: والنِّسوانَ بكَسْرِهِنّ والنُّسوان بضم النون كل ذلك (جموع المرأة من غير لفظها) النساء جمع نسوة إذا كثرن، والنساء: جمع امرأة وليس لها واحد من لفظها، وفي النسبة نسوي»[5] ويقع هذا التعريف مُحددا لاشتقاقات النسوية؛ فهي من النساء والنسوة؛ أي جمع مرأة. وقد تناول معجم مصطلحات اللغة العربية المعاصرة النسوية «نسْوي/ نسّوي [مفرد]: اسم منسوب إلى نُسوة/ نِسوة، على غير قياس "مدرسة الفنون النسوية" قائدات الحركة النسوية حركة فكرية مهتمة بحقوق المرأة والنسائية هي حركة اجتماعية إصلاحية تنادي بتحسين وضع المرأة والدفاع عن حقوقها وتأكيد دورها في المجتمع»[6]؛ فالنسوية مصطلح مشتق من النسوي والنسائية، وهي حركة نضالية تُصنّف من بين الحركات الفكرية التي تنادي بحقوق المرأة. أما قاموس اللغة الفرنسية (Hachette)، فكان تعريفه للنسوية (Féminisme) بكونها «مذهب، وتوسيع حقوقها»[7] فالفيمينست الفرنسية المرادفة للنسوية العربية تُمثّل جملة المواقف التي تعمد على إعطاء مكتسبات للنساء وتمكينهم من أدوارهم أكثر. وتناول قاموس (Oxford) معنى (Feminism)، وهي «اسم ونعت مشتق من (Féminine) وتعني المرأة، أو التمتع بمساواة أنثوية، وهي من الاسم (Femininity) المأخوذة من اللاتينية والمتعلقة بكل ما هو أنثوي (Female)، ويستخدم معنى (Feminism) لوصف المدافعين عن حقوق المرأة والمطالبين بالمساواة جنسيا»[8] إن هذا التعريف يقضي بأن تتمتع المرأة بكافة الحقوق مدنيا، وأن تنتفي كافة أوجه الميز بينها وبين الرجل، ونقصد هنا (التمييز بسبب الجنس/الجندر). ب. اصطلاحا: قد يكون سؤال ما النسوية؟ لا يعني للنسويات أو لغيرهن شيئا؛ فمحتوى مصطلحات كالنسوية بديهي، غير أننا نجد تعاريف لا حصر لها، سنعمد على انتقاء أدقها وأوضحها. عرّف معجم مصطلحات الثقافة والمجتمع النسوية، وظهر المصطلح في تسعينيات القرن التاسع عشر في سياق حركة نساء نشيطة، صار يُستخدم الآن لوصف الأفكار والأفعال المؤيدة للنساء منذ الأزمنة القديمة حتى الوقت الحاضر، وغالبا ما تُرَدّ أصول النسوية الغربية الحديثة إلى حركة التنوير في القرنين السابع والثامن عشر، بميولها في المساواة ومن أوائل مطالبها تيسير أكبر للتعليم»[9] ثم توسعت المطالب للدعوة لحقوق أكثر؛ مدنية واجتماعية. استهدفت تدعيم بعض الحقوق الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للنساء، من أجل الوصول إلى المساواة مع الرجال»[10] لتزداد المطالب النسائية بحقوقهن بعد قيام الثورة الصناعية؛ أين خرجت المرأة وتغيرت في سبيل هذا المعايير الاجتماعية التقليدية. تصرّ دي بوفوار على مقولة أن المجتمع هو من يجعل المرأة امرأة بالمفهوم السلبي، فهي جنس كغيرها من الأجناس ويمكن اعتبار التعريف التالي تعريفا جامعا لما تم تناوله، فالنسوية هي «مجموعة من التصورات الفكرية والفلسفية التي تسعى لفهم جذور وأسباب التفرقة بين الرجال والنساء؛ وذلك لتحسين أوضاع النساء وزيادة فرصهن في كافة المجالات، تقوم على حقائق وإحصاءات. إنها وعي مؤسس، وهي كعلم: دراسة تحاول فهم أسباب الفجوة النوعية وسُبل التغلب عليها»[11]؛ فالنضال الأساسي للنسوية ينطلق من الأفق العلمي، والتحليل الموضوعي لواقع النساء، وجذبها تدريجيا نحو أدوارها الاستراتيجية ومحاولة الانتصار على القوانين والعادات التي كرّست للظلم والتضييق على كل ما هو أنثوي، كما تشترك النسويات في العالم أجمع برفع مطالب المساواة بين الجنسين، وعي تشكل فرديا ليتكتل في حركات واسعة تتسع تنديداتها ومطالبها في كل مرة، أين بدأت من مطالب مشروعة إلى مطالب متطرفة. 2. كرونولوجيا الحركة النسوية: أ‌. في العالم الغربي: لكل حركة فكرية تاريخ وسياق معرفي ظهرت فيه، وعندما عاد الفيلسوف الإنجليزي ((توماس بين)) إلى بلاده تعرفت عليه ماري ولنستن كرافت (1759-1797) فقرأت كتابه عن حقوق الإنسان وتأثرت به، وأخرجت كتابها "دفاعا عن حقوق المرأة" عام (1792)»[12] ويعتبر هذا الكتاب حجر أساس النسوية في إنجلترا. وطالبن بحق المرأة في التصويت في الانتخابات، ومدنية عليا في الجمهورية»[13]. إن للثورة الفرنسية الدور الفعّال في توسيع المطالب الشعبية، حيث لم يقتصر الأمر برفع شعارات (الحرية، والمساواة، والأخوة) وبإعدام الملكية، الفرصة في تنظيم أنفسهن سياسيا ضد قمعهن»[14]، حيث واكبت النسوية الأمريكية الحركات الناشطة ضد التمييز العنصري، وسعت إلى تغيير وضع المرأة وتنظيم أدوارها وقبولها في كافة الأنساق الاجتماعية، ومجابهة كافة أنواع الاضطهاد الذي قد يلحق بها، كالعنف اللفظي، واستمر العمل النسوي في نشاطه وحملاته، إذ «سعى بيان "المشاعر" عام 1848، إلى إنهاء سلطة الأزواج المطلقة على زوجاتهم، وأدانت الحملات ضد الاتجار بالنساء وقوانين الأمراض المعدية»[15]، حيث كانت النساء يُستَغَللن جنسيا، وتُباع أجسادهن للدعارة، لتُفضي هذه الحركة إلى السيطرة على هذه التجاوزات. في سبيل مناهضة فكرة استعباد النساء (فكريا، وجسديا)، قمن بحركات في الغرب والشرق على السواء، حاولن استعادة هوياتهن المسلوبة وترجم إلى لغات عالمية، وانتشر بسهولة»[16] ليكون كتاب "استعباد النساء" لجون ستيوارت مل (1806-1883)؛ «مُكرسا لإدانة الدونية الحقوقية للمرأة، وأن أي شخص يُحاول أن يُخضع له النساء بمجرد واقعة مولدهن إناثا لا مثيل له في التشريع الحديث. ».[17] إن القوانين المدنية التي صاغت وشكّلت العصر الحديث تعتبر النساء والرجال على السواء مواطنين، وبالتالي انتفت في هذا العصر كافة أشكال الميز الجنسي بين الرجال والنساء؛ ولا منطقيا؛ إذ إن «تنظيم العلاقات البشرية تنظيما شاملا يقوم على العدل وليس الظلم، فجميع النزاعات والميول الأنانية وعبادة الذات وتفضيلها تستمد غذاءها الرئيس من الوضع الحالي للعلاقة بين الرجل والمرأة، حتى إن أتفه البشر جميعا وأشدهم جهلا وأعظمهم بلادة أسمى من كل امرأة»[18]، ولا يمكن القضاء على هذه الذهنيات واقتلاع هذه التصورات إلا بقوة القانون. ونشرت الأمريكية "تشارلوت بيركينز غيلمان" (1860-1935) دراسة في العلاقة الاقتصادية بين الرجال والنساء كعامل في التطوّر الاجتماعي، وأقرت أن «الاستقلال الاقتصادي للمرأة سيُغيّر كل هذه الشروط بشكل طبيعي وحتمي بقدر ما قدمتها تبعيتها، وفي تخصصها بنشاط ما، فإنها ستطوّر شخصية أكثر وجنسانية أقل، فالعمل بحسب "غيلمان" يحرر المرأة ويثبت وجودها. أصبحت المرأة ومن الفترة (1920-1963) أكثر نشاطا، إذ «وثّقت ليلى روب وفيرتا تيلر أن النشاط النسوي السياسي استمر وانتقل إلى منظمات مثل الرابطة المعتدلة للناخبات النساء، بعد الحرب العالمية الأولى أصبحت النساء ناشطات في حركات السلام والحركات الدولية، وخلال خمسينيات القرن العشرين عملت النسويات على معارضة التجارب النووية وساعدت في تأسيس الأمم المتحدة». 20] إن الدعوة إلى تحرير المرأة في العالم الغربي مرّ بعدة مراحل مفصلية بدءًا من ظهور الفكرة، إلى التشكل والانخراط العملي إلى التأسيس النظري فظهر جيلين، جيل النسوية، ظهرت النسوية الفرنسية بزعامة سيمون دي بوفوار التي «طرحت سؤال ما المرأة؟»[22] «وبدأت علاقة دي بو فوار مع الفيمينسيت في البداية عن طريق تبادلها لرسائل مع هذه الحركة. وكان لكتاب المرأة الغامضة لبيتي فريدان (1963)، والذي اعتبره بعض النقاد أن أفكاره تشبه أفكار الجنس الآخر لسيمون دي بوفوار»[23] والتي ناقشت مفهوم المرأة تقول: «ماهي المرأة؟ هذا شيء بسيط إنها رحم ومبيض؛ فإنها أنثى وهذه الكلمة تكفي لتعريفها. ويلوك الرجل كلمة أنثى كما لو كانت إهانة! لم تعد المرأة سوى عبدة بعدما كرست للإنجاب والأعمال الثانوية فالإنسانية في عرف الرجل شيء مذكر»[24]. إن دي بوفوار تصرّ على مقولة أن المجتمع هو من يجعل المرأة امرأة بالمفهوم السلبي، ولا تولد كذلك، فهي جنس كغيرها من الأجناس، ليستمر العمل النسوي لاحقا مع "جوديث بتلر" (1956). و"جينيفر بومغاردنر". وغيرهن. ويمكن تمثيل كرونولوجيا الفكر النسوي في العالم الغربي في المخطط التالي: ب. في العالم العربي: يؤرخ عادة لبدايات النسوية في العالم العربي مع الرائدات الأوائل، شمل عددا من رائدات العمل النسائي، مثل عائشة تيمور (1840-1902) وزينب فواز (1844-1914) وهدى شعراوي (1879-1947) وملك حفني ناصف (1886-1918)، وعائشة عبد الرحمن (1912-1998)»[25] بَدَأْنَ في أوّل الأمر ببسط فكرة المرأة وحقوقها تحت راية الإسلام «الذي يرتفع بقيمة المرأة وكرامتها، باعتبارها ابنة وزوجة وأمّا، وعضوا في المجتمع وقبل ذلك كله باعتبارها إنسانا»[26] ومن الخلفية العربية الأصيلة، بالرّغم من غياب الطرح المنهجي والتنظير المباشر لآرائهن. تعد "السعداوي" من بين الشخصيات النسوية الأكثر تأثيرا في العالم العربي، فقد حملت ومنذ زمن بعيد لواء الانتصار لكل ما هو أنثوي ارتأت النسويات الإسلاميات «أن الرسالة الروحية للإسلام قد طُعنت، فبدلا من المساواة التي كان الدين ينادي بها، حوّل النظام الذكوري، الأبوي هذه الرسالة إلى أداة لاضطهاد النساء. وبينما دعا الإسلام إلى تحررهن قامت التقاليد الأبوية التمييزية بمصادرته»[27] لذا عمدت النسويات في العالم العربي إلى تفكيك الخلفيات الأيديولوجية التي جعلت من المرأة كائنا دونيا، وإلى تغلغل النفوذ الأبوي، وصادقت على أسطورة بطلها الرجل السوبرمان الذكي والقوي والمرأة الكائن الساذج الضعيف الذي قد تلهيه أظافر أصابعه عن قضايا كبرى. أن المرأة شعب خاضع للاستعمار، مما أفضى مع مرور الزمن إلى ظاهرة البرقع Burkah كما أن الشباب المسلم متشددون في التمسك بعذرية المرأة الدالة على وفاء قبلي»[28] فكان نطاق المرأة ومجالها الوحيد البيت، وفي سبيل مناهضة فكرة استعباد النساء (فكريا، قمن بحركات في الغرب والشرق على السواء، حاولن استعادة هوياتهن المسلوبة، هذا ما حدا بهن إلى قلب تراتبية العلاقات رجل/امرأة، وكذا الحيّز الفضائي الداخل/الخارج؛ فطالبن بتجريم العنف*، والتعليم وحق الانتخاب، والتوظيف في مؤسسات الدولة ليصبح الفضاء العام ليس رمزا للرجل فقط، بل وللأنثى. وترجع نهضة المرأة العربية «في القرن التاسع عشر إلى عاملين رئيسين؛ في عدد من الأقطار العربية، والثاني هو ظهور المصلحين وأنصار المرأة وخاصة في مصر»[29] من أمثال فارس الشدياق، والذي يُعد كتابا مرجعيا لقضية المرأة؛ نادى من خلال تشريحه لعوامل تدهور مكانة المرأة العربية، فقد «مضت الأجيال والمرأة خاضعة لحكم القوّة مغلوبة لسلطان الاستبداد من الرجل، وأغلق في وجهها أبواب المعيشة والكسب، حيث آل أمرها إلى العجز عن تناول وسيلة من وسائل العيش بنفسها، ولم يبق للعقل ولا للأعمال النافعة قيمة لها، وإنما بضاعتها أن تُسلي الرجل»[30]. إن التحقير والتقزيم الذي تعرضت له المرأة أفقدها الثقة بنفسها، وبقيمتها هذا ما حدّ من قدراتها في التفكير، وثبط عزيمتها في التغيير، فأسمى غايتها أن يكمل ويستر عيبها ونقصها رجل، وأقصى طموحها أن تعيد إنتاج نموذج بشري يحافظ على النمط السائد! أ‌. بيوغرافيا نوال السعداوي: كتبت "نوال السعداوي" سيرة حياتها ضمن ثلاثة كتب عنونتهم بـ"أوراقي. حياتي" عادت بنا إلى قرية بمحافظة القليوبية بمصر عام (1931-) في «كفر طحلة، درست بابتدائية "محرم بك للبنات" بالإسكندرية، في السادسة من عمرها (1937) كانت عملية الختان لها»[31]، التي تعتبر حادثة ومنعطفا قلب قدر "السعداوي" من فتاة قروية، إلى كاتبة ثورية . تتساءل السعداوي، وتستغرب في ذات الوقت أن يكون «النبي محمد أو عيسى أو أي نبي آخر يصدر أمرا كهذا، ومنذ 1937 والسعداوي لا تستطيع النظر في جسدها العاري أو تلك المنطقة المحفوفة بالمخاطر»[32] إن المجتمع والتقاليد البالية ربطت كلمة امرأة بجسد مدنس، يعبق بالخطيئة. في «1938-1948 انتقلت السعداوي مع عائلتها إلى المنوفية، أين اشتغل والدها مفتشا على هذه المدارس»[33]، عقدت "السعداوي" مقارنة بسيطة في عقلها تقول: «أخي يلعب طول السنة ويسقط في الامتحانات، لا ينوبني إلا مليم واحد وهو يأخذ مليمين»[35] لعلها أولى الأسئلة الفلسفية الفضولية التي طرحتها "السعداوي" من الذي بوأ الرجل مكانة الصدارة والسيد؟ ومن منح النساء شارة العبودية؟ ودخلت كلية الطلب عام 1948»[36] تزوجت من زميل لها في كلية الطب يدعى "أحمد حلمي"، ثم توفيت «والدتها عام 1958 ووالدها بعام 1959»[38] لتتزوج مرة ثانية من الطبيب والكاتب "شريف حتاتة"، وكان هو الآخر ناقدا فذا مما جعل «الحكومة تطاردهما طيلة ثلاثين عاما، ليستقرا في نورث كارولينا»[39] بأمريكا. من بين مؤلفاتها: «المرأة والجنس، الأنثى هي الأصل، الرجل والجنس، »[40]، فكيف تتحرر المرأة، وهي لا تزال لا تثق في نفسها ولا تعتبر جسدها ووجهها ملكا لها، وهو هويتها هي كامرأة ب. نسوية نوال السعداوي: تعد "السعداوي" من بين الشخصيات النسوية الأكثر تأثيرا في العالم العربي، فقد حملت ومنذ زمن بعيد لواء الانتصار لكل ما هو أنثوي، وتقنين الدعارة كوظيفة رسمية. تقول في كتابها "أوراقي . حياتي" «تبدو اللغة غريبة، كلماتها مبنية للمجهول، حروفها مقدّسة تخاطب المرأة بصيغة المذكر، كل شيء مذكر في اللغة، حتى الإله والشيطان والموت»[41]. إن هوس النسوية جعلها ترى الوجود مذكرا، وتتساءل لماذا أُغفل دور المرأة؟ فلو لم تكن النساء، ولو لم تكن عشتار إلهة النماء والخصوبة لما استمرت البشرية. تؤكد "السعداوي" أن «قضية المرأة أصبحت عِلما يُدرّس في جامعات العالم مثل العلوم الأخرى ولم تكف النساء في بلادنا أو في بلدان العالم عن النضال الطبقي الأبوي منذ بداياته في العصور القديمة، فالحركة النسائية التحريرية متصلة في التاريخ، تضرب بجذورها في كل بلد، 42] فالنساء جابهن السيطرة والهيمنة* الذكورية منذ تاريخ قديم، وظفرن بمكاسب خلّدها التاريخ؛ منذ الحضارة الفرعونية والبابلية واليونانية. إلخ ربطت "نوال السعداوي" قضية تحرير النساء «بتحرير الوطن؛ لأنهن نصف هذا الوطن ولا يمكن تحرير الوطن دون تحرير النساء»[43] فنحرر الوطن من أيادي الدكتاتوريات والانتهازيين والخونة ونحرر النساء من قيود نظام أبوي الذي أحكم قبضته، وحاصر كل تصور يرفض الاستبداد*. أن المرأة لم تتحرر في سائر بقاع العالم ولا يغرنا البهرج الموجود، فإذا «كانت المرأة العربية أو الإسلامية ترتدي الحجاب باسم الدين، وهو هويتها هي كامرأة، إن المجتمع الذكوري قضى أن يجعل جسد المرأة دمية شاحبة، وإلا صارت روحا شريرة لا أنثى، هذا ما جعل المرأة تقتنع وتؤمن بنقصها وأن حياتها لا تكتمل ولا تستقيم إلا بوجود الرجل إلى جانبها. لأنها ترى فيهما نموذجا مصغرا لبرجوازية عفنة منحت الرجل سلطة إلهية في الأرض تقول: «الزواج يُفسد الحوار بين الرجل والمرأة»[45] فالمرأة عندما تواعد شريكها، فإنه يحترمها قبل الزواج ويُعنِّفها بعده، فهل تدعو "السعداوي" إلى مشاعية العلاقات حتى تتأكد حرية المرأة؟ على اعتبار أن «الرضا الجنسي لا يمكن أن يحدث في ظل علاقة غير متساوية، ولا يمكن أن يحدث في ظل تربية صارمة تُسبب العُقَد، كما أن الزواج في معظم هذه الحالات يتم لأسباب غير الحب الحقيقي، وفي ظل القيود والمحظورات. يصبح الجنس عملية منفرة يهرب منها الزوجان»[46] لقد دأبت المجتمعات البشرية على نموذج تصوري واحد ينسخونه عن المرأة جيلا بعد جيل؛ فهي ذلك الكائن الذي لا يصلح إلا لإنجاب الأطفال، فأطلقوا عليها اسم المفرخة، أو آلة الطبخ. لذا، أوجبت عليها كافة التشريعات والديانات* التزام التحجب والاستتار. تأثرت "السعداوي" بالفرنسية "سيمون دي بوفوار" خاصة في مقولة المرأة لا تولد امرأة، بل تصبح كذلك، حيث عمدت المؤسسات والنظم الاجتماعية على المصادقة على هذه الأفكار ودافعت السعداوي عن قدرات المرأة وإمكانياتها تقول: «فعقل المرأة العربية مثل عقل أي إنسان آخر، في الغرب أو الشرق أو الشمال أو الجنوب، وهي قادرة على الإبداع في مجال العلوم والفنون»[47] إذن أتيحت لها الفرصة، كما أن التاريخ شوّه حقائق كبرى حول إنجازات المرأة، فمن «يستعرض إنتاج الأدباء في الشرق والغرب-قديما وحديثا- لابد أن يدهش لهذا الكم الهائل من القصص والشعر والروايات التي تناولت المرأة، وصورتها تصويرا خاطئا». أيدوا نظرات مجتمعاتهم الإقصائية للمرأة، وكرسوا كتاباتهم للهجوم عليها. الكتابات الفلسفية تُحرر الأفكار من عوالم الصمت، وتلقي بها خارجا، وعلى هذا الأساس، فقد شاعت نظريته المشوهة لسيكولوجيا المرأة»[49] التي لا تنم إلا عن صدى لاعتناقه لأفكار ذكورية بحتة، تآزر المرأة اللاسوية (الجنسية والعُصابية)، وتجانب المرأة العقلانية الطبيعية، و"موت المؤلف" البارتية؟ 4. النسوية فلسفة أم لا فلسفة؟ أ. النسوية فلسفة: الفلسفة كما ذهب في ذلك "ثابت الفندي" «لون أصيل ومستقل من ((الفكر))، وينتهي إلى أحد فروعها أيّ فكر بشري، ولما كانت النسوية في بداياتها حركة فلسفية بامتياز، وأفلاطون، ونيتشه. وغيرهم، محاولين تبرير آراء وتقديم تصورات عن المرأة، لم يكن من بدّ عندما ظهرت الكتابات الأولى للنسوية، إلا أن تقرأ تراث الفكر الإنساني المعادي للمرأة، وتصنع فكرا مضادا له؛ أي فلسفة ضد فلسفة، فإذا اعتبرنا التراث البشري الأول (قبل النسوية) تراثا ذكوريا، على اعتبار أن النسوية فكر يروم التحرر، لتُغيّر المفاهيم ولتُحرر العقول. يمكن اعتبار النسوية فلسفة تندرج تحت فلسفة السياسة، ففي كتاب "جاغار Jaggar 1983" "السياسة النسوية والطبيعة البشرية" درس مواقف والاتجاهات الأربعة للطبيعة البشرية، والسياسية وكذلك نظريات المعرفة، كان يهدف "جاغار" تقييما لاتجاهات النسوية، بتوضيح مصطلحاتها، ومقاصدها، وقد ربطها بأربع نظريات سياسية، وهي: النسوية الليبرالية le féminisme libéral، النسوية الماركسية التقليديةle féminisme marxiste traditionnel، والنسوية الراديكالية le féminisme radical، تعتبر هذه النظريات أن النساء مضطهدات من قبل الرجال". عرض "جاغار" أربعة مفاهيم حول الطبيعة الإنسانية: بالنسبة إلى النسوية الخنثويةالراديكاليةle féminisme radical androgynophile: يفسرون اضطهاد النساء بارتباطه بالهوية الجنسية، والحل هو استبعاد التمييز على أساس الجنس، لصالح الخنثوية، علينا أن نقويها بالتكنولوجيا. فالحل يمكن في تقديس إمكانيات المرأة النفسية والإنتاجية. نسوية راديكالية غير جنسيةle féminisme radical asexuel: تعتقد أن الجنس اختراع اجتماعي، والحل يكمن في إقصاء كل الخصائص العامة للرجال والنساء، 52] إن النهضة النسائية ترتبط بالفلسفة السياسية من جهة، ومن جهة ثانية «بالتغيرات الاجتماعية والاقتصادية وبالتطورات السياسية»[53]؛ فقد اكتسبت قضية المرأة بعدا واقعيا مؤسسا، ولم تبق مجرد حركة ثورية بأفكار فلسفية. إذ انتقلت النسوية من الحديث عن الماديات، إلى الرموز، ومن محاولات فهم السوسيولوجيا البطريركية إلى اكتشاف الهُويات الجنسية اُستخلصت بعض الأعمال الفلسفية حول اللغة من النسوية، وتعتبر علاقة اللغة بالجندر* صلب نقاشات النسوية في مرحلتها الثانية، وقد تأثرت فلسفة اللغة النسوية بتغير القضايا والمسائل الأكاديمية، إذ انتقلت النسوية من الحديث عن الماديات، ومن محاولات فهم السوسيولوجيا البطريركية إلى اكتشاف الهُويات الجنسية[54]، هذا من جهة، ومن جهة ثانية، ارتبطت الفلسفة النسوية بالفلسفة التحليلية analytic philosophy؛ كي تُوظف النسوية منهجية الفلسفة التحليلية لوضع مقاربات للقضايا النسوية، والعقلانية والعدالة، وفلسفة نسويات الدراسات العلمية، كما يوضحها المخطط التالي[56] ب. النسوية جنس أدبي: وأنها تنتمي إلى نظريات النقد الأدبي يقول: «يمكن إدراج السرود النسوية في سياق نصوص المتعة، تلك النصوص التي تُزعزع معتقدات المتلقي بما فيها من الخروج عن الأعراف فتُحرّك مناطق شبه مُحرّمة»[57]، وهي في رأيه تروم تجاوز السائد وقطع الصلة بالموروث. كتابات حديثة العهد؛ إذ لم تُمنح الفرصة للمرأة من أن تتأمل «طباعها، وذاتها كأنثى وترتيبها للرجل إلا في الربع الأخير من القرن العشرين، حيث أنماط الحياة المعتادة والتقاليد المعاندة، كل هذا دفع المرأة لاستخدام وسائل غير لغوية»[58] فنراها تتظاهر مرة ضد قضايا (كالزواج المبكر، وقضايا جرائم الشرف)، ومرات تلتزم الرمزية فتحاول نقل تجاربها من خلال أفلام، ورويات، ووسائط وتدوينات. فالنسوية بهذا المعنى، أقرب للسرد لا للفلسفة، السرد في أوسع صوره (قصصا، وروايات وحتى سيرا ذاتية). قد تكون النسوية محاولات لقلب الأدب الذكوري بأبعاده الإقصائية، ورسم خريطة جديدة للأدب من جهة وعلم الاجتماع من جهة أخرى، حيث اتجه «المذهب النسائي إلى أن التفسيرات التي يقدّمها علم الاجتماع لا تفعل شيئا سوى أنها ببساطة تعيد إنتاج المفهوم القائل إن العلاقات بين الجنسين ((طبيعية))، وإن النساء يقمن بأدوارهن المناسبة واللائقة في المجتمع، لقد انصب جل اهتمام علم الاجتماع وعلمائه على الرجال فقط»[59] ومما تقدّم يمكن ضبط النسوية «بأنها اتجاه نقدي يُلقي الضوء على الممارسات غير العادية التي تتعلق بأدوار الرجل والمرأة في المجتمع، أو بمعنى آخر، فمن الحقائق الاجتماعية أن للمرأة حظوظا أقل كي تُصبح رئيسة للوزراء أو العمل في سلك القضاء»[60]. لذا تسعى النسويات ووفقا لمستويات عدة إلى إنتاج خطاب نقدي لعلم الاجتماع؛ لأنه كرّس المفهوم الذكوري، حيث عنت الأبحاث السوسيولوجية بالرجل وركّزت عليه، وتجاهلت كثيرا القضايا المرتبطة بالمرأة. أحيانا قد تعكس الكلمات التي نستخدمها وجودنا الثقافي وموقع المرأة الهامشي في مجتمعنا؛ سواء لاستنباط ملامح السيطرة الذكورية، أو للانتصار للظواهر النسوية في تلك الكتابات، حتى توصّل -بعضها- إلى تقرير أن الأعمال الأدبية أنكرت تاريخيا الإنسانية الكاملة للمرأة»[61] لتعيد النسوية المكانة والاعتبار لأدب وفكر نصوصه مكتوبة بلغة نسوية في ذاتها ولذاتها. خاتمة: قد تكون نوال السعداوي أول ثائرة عربية لها إسهامات حيّة أسست بها لنسوية عربية، وقد تكون من القلائل اللواتي خضن هذه المسألة، وهي سمة يشترك فيها الثوار كما يقول الشهيد ديدوش مراد "الثوار أقلية يبدؤون . وكذلك ينتهون" قد تكون بدأت مغامرة فكرية جديدة تُحسب لها، كل هذه الاحتمالات تبقى دائرة، ولا نستطيع صياغة إجابة واحدة حولها، فنصوصها قابلة لإعادة القراءة والتأويل. النسوية ردّ فعل على خطابات ذكورية مناقضة، مؤداه أننا نعيش في ثقافة يُهيمن عليها الذكور، كما تعمل على اجتثاث المنابع الأيديولوجية التي صنعت تاريخ الهيمنة على أساس الجنس. كمجابهة كافة أشكال الميز الجنسي داخل المجتمع، كما يمكن أن تندرج النسوية تحت فلسفة اللغة،