لكنه مع الوقت الذي وصل فيه إلى غور ليند تحول إلى غدير صغير ساكن ومطواع. إذ حتى الجدول لا يستطيع المرور من أمام بيت السيدة ريتشيل ليند دون أن يأخذ لياقته واحتشامه بعين الاعتبار. ولعله ساعة جريانه هناك شعر بأن السيدة ريتشيل كانت تداوم على الجلوس قرب نافذتها مسلطة عينا حادة على كل ما يمر أمامها، لكن السيدة ريتشيل ليند كانت واحدة من تلك المخلوقات القديرة التي تستطيع تدبر شؤونها الخاصة وشؤون بقية القوم في وقت واحد. كما كانت تعتبر الدعامة الأقوى لجمعية خيرية، كثيرا ما وجدت السيدة ريتشيل متسعا من الوقت لتجلس لساعات أمام نافذة مطبخها تحيك أغطية اللحف القطنية؛ كما كانت ربات بيوت أفونليا تردد بأصوات يشوبها الهلع، بينما تسلط في نفس الوقت عينا ثاقبة على الطريق الرئيسي الذي يشق الغور صعودا نحو الهضبة الحمراء بعد الغور. فإنه كان لزاما على أي شخص يغادرها أو يقدم إليها أن يسلك طريق تلك الهضبة، متبوعا بعيني السيدة ريتشيل الناقدتين اللتين لا تغفلان شاردة. يبذر بذور موسم اللفت الأخير في حقل التلة خلف البيدر، وكان من المفترض أن يكون ماثيو كثبيرت أيضا يبذر بذوره في حقل الجدول الأحمر الكبير، بعيدا إلى الأعلى عند المرتفعات الخضراء. كانت السيدة ريتشيل تعرف هذا لأنها في الأمسية السابقة سمعته في مخزن ويليام بلير في بلدة كارمودي وهو يخبر بيتر موريسون عن عزمه على بذر بذور اللفت في عصر اليوم التالي، مما يدل بجلاء على مغادرته أفونليا، بل إن العربة والفرس البنية تبرهنان على أن وجهته تبعد مسافة جديرة بالاعتبار. فإلى أين يذهب ماثيو كثبيرت ياترى ؟ ولماذا هو ذاهب إلى حيث ينوي الذهاب) لو كان الأمر يتعلق بأي رجل آخر في أفونليا، لتمكنت السيدة ريتشيل من وضع الأمور في نصابها بمنتهى الحذق، ولربما تمكنت من التوصل إلى تكن يليق بالسؤالين معا، وكان ينفر من الاضطرار إلى الذهاب حيث يوجد الغرباء، بل وحتى إلى أي مكان يضطر فيه إلى الكلام، وما كان بإمكان السيدة ريتشيل مهما أحدت ذهنها أن تعثر على جواب ما، توصلت المرأة الوجيهة إلى قرار. «سوف أقصد المرتفعات الخضراء بعد تناول الشاي وسأعرف من ماريلا إلى أين ذهب ولماذا. » قالت السيدة ريتشيل لنفسها. «إنه على وجه العموم لا يذهب إلى البلدة في هذا الوقت من السنة ولا يزور أحدا أبدا، كما أنه لم يكن يقود العربة بسرعة توي أنه بصدد الذهاب إلى الطبيب. انطلقت السيدة ريتشيل نحو المرتفعات الخضراء بعد تناولها الشاي، فالمنزل الكبير الذي يظلله البستان العريشي حيث يقطن آل كثبيرت يبعد بمقدار ما يقارب ربع ميل صعودا من غور ليند، لكن لا ريب أن الدرب الطويل المؤدي إليه جعله أكثر بعدا. كان والد ماثيو كثبيرت الذي ورث عنه ابنه حياءه وصمته، قد رغب عندما أسس ركيزة بيته في الابتعاد عن الناس قدر ما أمكنه، وما زالت قائمة هناك إلى الآن، لا تكاد تستبينها العين من الطريق الرئيسة التي تستقر على طولها جميع منازل أفونليا الأنيسة، ولم تكن السيدة ريتشيل تعتبر الحياة في مكان كذاك المكان حياة على الإطلاق. » قالت السيدة بتشيل لنفسها وهي تتتبع الدرب المحدد المعشوشب المحاط بأجمل الأزهار البرية. «ولا عجب في أن يكون ماثيو وماريلا غريبي الأطوار قليلا، ولو كانت كذلك فلا شك أن لديهما ما يكفي منها، كما يقول الإيرلنديون، قادر على الاعتياد على أي شيء حتى على حبل المشنقة. » كان الفناء يتميز بالخضرة والنظافة والترتيب، ما كان يمكن لمح عود شارد أو حجر فيه، وإلا لرأته السيدة ريتشيل التي تظن فيما بينها وبين نفسها أن ماريلا كثبيرت تواظب على كنس ذلك الفناء كلما كنست بيتها، دون أن يتلوث ذلك الطعام بأدنى ذرة غبار يمكن أن يضرب بها المثل.