لم تقتصر آثار الجهود الدعوية التي بذلها المسلمون في عصر الحروب الصليبية تجاه النصارى على البلاد الإسلامية فحسب بل امتدت آثارها إلى أوروبا نفسها منطلق العدوان الصليبي الحاقد على البلاد الإسلامية. حيث تفاوتت هذه الآثار قوة وضعفاً بين الجهات الأوروبية، فبينما كانت أكثر وضوحاً في الجهات الجنوبية من أوروبا وفي الممالك النصرانية المحاذية للمسلمين في الأندلس فإنها أقل وضوحاً من الجهات الشمالية والغربية من أوروبا. مما يدل على قدرة الثقافة الإسلامية على صد أي عدوان وتحويله لصالحها، وما كان ذلك ليتم لولا قوة التمسك بالإسلام والعمل على تطبيقه بين عموم المسلمين أولاً ثم نشره في أصقاع الأرض. مما أكسبهم الثقة بالنفس في نشر الدين وإعمار الدنيا بشتى العلوم. ومن مظاهر هذا التأثير الإسلامي على الغرب: - تأثر بعض الأوروبيين بشيء من العادات والتقاليد الإسلامية ففي صقلية – حيث كانت السلطة والدولة للنصارى فيها بعد أن كانت للمسلمين - امتدت آثار الجهود الدعوية المختلفة إلى نصارى هذه البلاد، فصِيحات الألسن، ملتحفات منقبات". والفونسو السادس ملك قشتالة، وغيرهم. خاصة في الممالك النصرانية بالأندلس؛ ومن ملوك صقلية المعجبين بالحضارة الإسلامية كذلك الإمبراطور فريدريك الثاني الذي كان متأثراً بكل ما هو عربي، وشاهد المؤرخ ابن جبير جانباً من الأوضاع الحسنة للمسلمين في صقلية تحت حكم فريدريك الثاني؛ وقال: وأما المساجد فكثيرة لا تحصى، وأكثرها محاضر لمعلمي القرآن. وكان المسلمون المقيمون في القسطنطينية في هذه الفترة ينعمون بشيء من الحرية وإظهار شعائرهم الدينية، وكان لهم جامع يؤذن ويصلى فيه. ومن ذلك مثلاً ما ذكره ابن الأثير عن روجار الثاني صاحب صقلية من أنه اتخذ رجلاً من أهل الصلاح يستشيره ويقدمه على الرهبان ويكرمه؛ ولذلك يتهم بأنه مسلم. ما منهم إلا من يصوم الأشهر تطوعاً وتأجراً ويتصدق إلى الله. فإن هذه الأوضاع الحسنة للمسلمين في بعض الدول النصرانية قد كان للجهود الدعوية المبذولة من المسلمين في هذه الفترة أثر كبير في تحقيقها كما كان للنموذج الإسلامي الأخلاقي في التعامل والحكمة الذي قدمها المسلمون أثر واضح. - اهتمام كثير من علماء الغرب بثقافة الشرق jpg تأثر كثير من علماء الغرب بالمستوى الراقي للحضارة الإسلامية وتعرفوا على علماء أفذاذ في مختلف العلوم واستفادوا منهم فائدة عظيمة. وكذلك لبونارد فيوناش الذي زار مصر والشام، وجيرارد الكريموني الذي قدم من إيطاليا سنة 545هـ، وكان له جهود كبيرة في الترجمة، وقد قال كاتب غربي عن أثر ما نقله هؤلاء العلماء الأوروبيين عن المسلمين عن طريق الترجمة: وقد أحدثت هذه التراجم كلها في أوروبا اللاتينية ثورة عظيمة الخطر، ذلك أن تدفق النصوص العلمية من بلاد الإسلام واليونان كان له أعمق الأثر في استثارة العلماء الذين بدأوا يستيقظون من سباتهم. وقال:. كذلك بعض ألفاظ التحية والسلام وغير ذلك. وفي صقلية وجنوب إيطاليا انتشرت عملات نصرانية كتب عليها آيات قرآنية منها قول تعالى: }هو الذي أرسل رسوله بالهدي ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون{ [سورة الصف، آية: 9]. - تأثر النصارى باللغة العربية كان البعض من الصليبيين الذين قدموا من أوروبا وعاشوا فترة في البلاد الإسلامية قد اكتسبوا اللغة العربية، و لم ينس هؤلاء - عند عودتهم إلى بلدانهم - اللغة العربية التي اكتسبوها في البلاد الإسلامية، وما نقلته مفرداتها إليهم من بعض المفاهيم الدينية عن الإسلام، والتي كانوا يجهلونها قبل ذلك، فنقلوها هم بدورهم إلى أفراد مجتمعاتهم في البلاد الأوروبية. ولكثرة المتحدثين باللغة العربية في بعض البلاد الأوروبية ولكثرة المقبلين على تعلمها اتخذت لغة رسمية في بعض المناطق بجانب اللغات العربية. بل إن بعض المفكرين الأوروبيين المتعصبين تأسف كثيراً على هجر كثير من النصارى لغتهم اللاتينية وولعهم باللغة العربية وثقافتها. ولم يقتصر الإقبال على اللغة العربية من عامة الناس في أوروبا، بل إن أعداداً من القادة الأوروبيين تعلموها وتحدثوا بها رغبة منهم في الإطلاع على الحضارة الإسلامية. ولذلك فإن شيوع اللغة العربية نسبياً في المجتمعات الأوروبية وكثرة الإقبال على تعلمها جعل أحد رجال الدين النصارى في مجمع فينا 710ه - 1311م يدعو إلى إنشاء ست مدارس لتعليم اللغات الشرقية في أوروبا. ولهذا الانتشار للغة العربية في أوروبا تسللت مئات الكلمات العربية إلى اللغة الأوروبية خاصة اللغتين الإنجليزية والإسبانية. - فقدان الثقة بالبابا ورجال الدين كانت الكنيسة مهيمنة على الحياة العامة في أوروبا محاربة لكل ما يهدد هذه الهيمنة من الملوك أو المفكرين، فالبابا - وهو رأس الكنيسة - أصبحت بيده السلطة الدينية وحتى السياسة في هذه الفترة؛ وكانت صكوك الغفران وصكوك الحرمان أداة للضغط بيده في مواجهة معارضيه. وهذه الهيمنة الدينية والسياسية لسلطة الكنيسة تضاءلت كثيراً في أوروبا بعد نهاية الحرب الصليبية، وقد قال أحد الكتاب الغربيين عن ذلك: . وعظم سلطان الكنيسة وعلت مكانتها إلى أبعد حد بسبب الحملة الصليبية الأولى ثم أخذت تضعف بالتدرج بسبب الحملات التي تلتها. ومع مرور الوقت قلت هيبة الكنيسة ومكانتها في نفوس العامة وأدركت الشعوب الأوروبية كذب ما يدعيه البابا من أنه نائب عن الله في الأرض وأنه معصوم عن الخطأ، فقلّت الثقة به وسائر رجال الدين النصارى. وذلك لاعتقادهم أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - تفوق على المسيح في هذه الحروب. حيث كان له أتباع ومؤيدون، وكان قد ألف كتاباً عن التثليث خالف فيه الاعتقاد السائد في عصره، ويقولون: إن من العبث أن ينطق بألفاظ لا يستطيع العقل تتبعها، وأنه لا شيء يمكن تصديقه إلا إذا أمكن فهمه أولاً. وقد أثار صاحب كتاب (قصة الحضارة) إلى كثرة المشككين في هذه الفترة في صحة بعض المعتقدات الكنسية وطقوس الديانة النصرانية؛ وأن ذلك مرده بشكل كبير إلى تأثير ما ترجم من الكتب العربية إلى اللغات الأوروبية. كان ذلك في حد ذاته كشفاً اضطربت له نفوسهم. وإشارة إلى شدة ضعف الكنيسة وانحسار نفوذها في المجتمع الأوروبي بعد الحروب الصليبية قال أحد الكتاب الغربيين:. للأقليات الإسلامية في ديار الغرب رسالة مهمة؛ أهمية تأليف الكتب العلمية لأحياء الأمة وتقرير العقيدة، وإبراز محاسن الإسلام وإبطال شبهات الأعداء حوله بمختلف اللغات. ضرورة إعداد المتخصصين بمعرفة شبهات الأعداء حول الإسلام وأساليبهم وطرق الرد عليهم وتعميم الثقافة الإسلامية. أهمية التزام المسلمين بأحكام دينهم وأثر ذلك في نشر الإسلام وقبوله لدى الآخرين. عدم القنوط واليأس مهما كبرت الرزايا وكثرت الفتن. وفي الأندلس كان من الأسباب التي دفعت مملكة أرغون المسيحية إلى توثيق الصلات مع غرناطة الإسلامية والعالم الإسلامي هو إدراكها - على عهد ملكها جيمس الثاني - أن صلاتها مع العالم الإسلامي بوجه عام يكفل لها رفاهاً اقتصادياً ويعينها على حاجاتها. وقد تحدث الدكتور إبراهيم بن محمد الحمد المزيني – في مجلة التاريخ العربي – عن دور العلوم الطبية الإسلامية في تطور علم الطب عند الأوروبيين. حيث نقل شهادات غربيين ومسلمين تؤكد ذلك، منها: الذي عقد في دولة الكويت - تحت عنوان (أثر العلوم الإسلامية في تطور الطب)، حيث قال: إن الأهمية الحقيقية والحاسمة للعلوم الإسلامية في الماضي تكمن في أثرها في تطور الطب في المستقبل. وفي احتفال أقيم في جامعة برلين بألمانيا، أشار الدكتور غريسيب رئيس فرع الطب فيها إلى فضل العلماء المسلمين على الإنسانية في علم الطب فقال: أيها الطلاب المسلمون، فما هذه العلوم إلا امتدادا لعلوم آبائكم، ما زال موجوداً بينكم وتعاليم نبيكم محفوظة عندكم، ففي قرآنكم علم وثقافة، وسلام عليكم يا طلابنا إن كنا في الماضي طلابكم. وخاصة اليونان، واستطاع الأطباء المسلمون في أقصر وقت ممكن أن يجلسوا على عرش الطب وحدهم، ويميزوا أنفسهم باعتبارهم حاملين لواء هذا العلم، ولقد بقي تأثيرهم في بعض الحالات إلى عصر النهضة وبعده أيضاً. وتدلنا جميع الوثائق التاريخية على أن جميع الأطباء والمؤلفين الأوروبيين في الطب في القرون الوسطى استقوا معظم كتاباتهم وأهمها عن العرب لا عن اليونان. ويؤكد ذلك الأستاذ قالدستون الذي أورد في مقالته (مكتشف الطب في بلاد العرب) أنه مما لا يقبل الجدل أن المعلومات التي وصلت إلينا من أطباء العرب هي في الحقيقة الحجر الأساسي للطب الحديث؛ بل وسعوا المفاهيم الإنسانية على وجه العموم. وإذا كان من واجبنا أن نعتبر فلق الذرة والقنبلة الذرية رمزاً لأروع المنجزات العلمية في منتصف القرن العشرين، فلن يبدو من مجرد المسافة أيضاً أن تكون جهود المسلمين الطبية المبكرة قد قادتهم إلى اكتشاف لا يقل عن هذا الكشف الذري ثورية. ودور الأندلس في نشر الوعي الطبي بين الأوروبيين. كانت أوروبا الغربية تعيش في ظلام وبربرية؛ وكان الدجالون والمشعوذون هو الذين يعتمد عليهم المرضى في العلاج. فقد أصاب سقوط الإمبراطورية الرومانية أوروبا كلها بالشلل، ومما بلغ حداً واسعاً في التأثير هو تلك المؤلفات الطبية الإسلامية التي لقيت اهتماماً كبيراً من الأوروبيين وترجمت إلى مختلف اللغات الأوروبية. بل إن مقرراتهم في كليات الطب بقيت تستعمل (القانون) لابن سينا و(الحاوي) للرازي وغيرهما حتى نهاية القرن السادس عشر الميلادي". ثم قاموا بترجمة علوم المسلمين في الطب وغيره. يقول كل من (ج. قراتان) و(شارلز سنجر) في كتابهما (السحر والطب عند الأنجلوسكسوني): ومما لا يقبل الشك أن تأثير علماء العرب والمسلمين في الطب على أطباء أوروبا خلال القرن الحادي عشر الميلادي إلى القرن الرابع عشر الميلادي، والجدير بالذكر أن كثيراً من المنصفين من علماء أوروبا الغربية، كما أن النظريات والأفكار الطبية صارت تدرس في جميع أنحاء المعمورة. وأول مدرسة أنشئت للطب في أوروبا هي المدرسة التي أسسها العرب في (باليرم) من إيطاليا. وهكذا يتضح لنا جليا المجهود الذي بذله الأطباء المسلمون الأوائل في سبيل تقدم الطب وازدهاره. ويظهر لنا الأثر الذي تركته هذه المجهودات في تثبيت قواعد الطب الحديث في العالم على أساس سليم قائم على العلم. وتطوير مجالي الجراحة والتشريح،