بل قبائل العرب الشمالية جميعها، قسمين كبيرين: قسم عدناني مضري، هو عرب الشمال المنحدرون من عدنان ونزار ومضر، وقسم قحطاني ينحدر من قحطان "ولعله يقطان المذكور في الإصحاح العاشر من التوراة"، من اليمن وحضرموت وعاش بين العرب الشماليين. وتشكك بعض المستشرقين فيما ساقه رواة الأخبار من هذا التقسيم وما يندرج فيه من أنساب القبائل الشمالية عامة1، وقالوا إنه من وضع القرن الأول للهجرة وما كان من منافسات بين مكة التي نُسبت إلى عدنان والمدينة التي نُسب العرب فيها من الأوس والخزرج إلى قحطان، وتداخلت عوامل سياسية واقتصادية مكنت من انتشار فكرة هذا التقسيم، كما مكنت من ترتيب الأنساب العربية في نظامها المعروف. ويبالغ بعض المستشرقين فينكر جملة أن يكون عرب الجنوب قد هاجروا إلى الشمال، ولكن من يرجع إلى الشعر الجاهلي يجد فيه الفخر باليمنية والقحطانية والعدنانية والمضرية، كما يجد فيه العصبيات مشتعلة بين القبائل على أساس الاشتراك في الدم وفي أب واحد أو أم واحدة، ومن التحكم أن نجري وراء ظنون لا دليل عليها. وحقًّا اختلف النسابون في أصل بعض القبائل وهل هي عدنانية أو قحطانية مثل خُزاعة وقضاعة وخَشعم؛ والرأي الصحيح أن هذه القبائل قحطانية. ومن الثابت الذي لا شك فيه أن القحطانيين هاجروا بتأثير ظروف اقتصادية وسياسية إلى الشمال، وأن هذه الهجرات بدأت منذ أزمان مبكرة؛ فقد كان المعينيون على ما يظهر يضعون حاميات في طرق قوافلهم التجارية، ولما ضعفت الدول الحميرية: دولة سبأ وذي ريدان وحضرموت واليمنات هاجر كثير من الجنوبيين إلى الشمال، وخاصة بعد سيل العرم الذي خرب سدَّ مأرب. فكندة التي هاجرت إلى الشمال وأسست لها مملكة أو إمارة في شمالي نجد كانت لا تزال بقيتها الكبرى تقيم في حضرموت حين ظهور الإسلام، ونجد في أسماء رجالها نفس الأسماء الجنوبية مثل شرحبيل بن الحارث ومعد يكرب أخيه، كما مر بنا في الحديث عن إمارة كندة، وكانت عشائر من إياد لا تزال تنزل في شمالي نجران؛ بينما يممت عشائر منها حوض الفرات، أما الأزد فقد توزعت عشائرها بين شمالي اليمن وعمان، وشمالي الجزيرة في الشام حيث نزل بنو غسان1. وفي هذا دلالة واضحة على أن هجرة الجنوبيين إلى الشمال لا يعتريها الشك. وهاجرت تنوخ إلى البحرين، ولما نزحت قبائل همدان من حضرموت إلى الجوف اليمني بين مأرب ونجران هاجرت قبيلة طيئ إلى الشمال واستقرت في جبلي أجا وسلمى. وهاجرت قبائل أخرى إلى شمالي الحجاز وانتشرت في بادية الشام؛ وأهمها قضاعة وبهراء وجهينة وبلى التي نزلت في مساكن ثمود وجذام وكلب وعاملة اللائي نزلن في حدود فلسطين وعذرة التي نزلت بالقرب من تيماء ووادي القرى. وممن هاجر من الجنوب أيضًا خزاعة وكانت مستقرة قبيل الإسلام في منطقة مكة وبجيلة وكانت تنزل جنوبي الطائف. ويقابل هذا القسم القحطاني اليمني قسم عدناني مصري، وعبد القيس في البحرين، وتميم وضبة في صحراء الدهناء، وبكر وعشائرها الكثيرة التي تمتد من الشمال الشرقي للجزيرة إلى اليمامة والبحرين، ويرد إليها النسابون بني حنيفة وبني عجل وشيبان وذهل، بينما كانت تنزل أسد في شمالي نجد وتنتشر عشائرها إلى تيماء. ومن هذه القبائل العدنانية أيضًا كنانة وهذيل بالقرب من مكة، وسليم، وعامر وعشائرها كلاب وعقيل وقُشَيْر ومزينة وبنو سعد، وغطفان وفرعاها الكبيران: عبس وذُبيان. وفي المفضليات قصيدة طريفة للأخنس بن شهاب يحصى فيها منازل كثير من هذه القبائل1. وظلوا على هذه الإيمان في الإسلام؛ ومجموعة مضرية عدنانية، وكان التنافس شديدًا بين الطرفين، وكثيرًا ما جر إلى منازعات في الكوفة والبصرة، كما جر إلى حروب في الجيوش المقاتلة في أقصى الشرق بخراسان وفي أقصى الغرب بالأندلس؛ فكانت تتجمع عشائر كل فريق حين تصطدم مصلحة عشيرة يمنية بمصلحة عشيرة مضرية، وسرعان ما تنشب بين الفريقين معارك دامية. ومن المؤكد أن عرب الجاهلية كانوا يتمسكون بهذه الأنساب التي أجملناها وعنهم ورثها أبناؤهم في الإسلام، وهي تؤلف علمًا واسعًا عند العرب هو علم الأنساب، وكأنهم رأوا في النسب ما نراه نحن الآن في الوطن؛ فهي من دم واحد ولحم واحد، ومن أجل ذلك عبروا عن القرابة باللُّحمة كما عبروا عن عشائرهم وفروعهم بالبطن والفخذ. وهي نظم قبلية، وهو موطن متنقل مع المراعي، وكذلك اشتراكها في تقاليد وعُرف تتمسك بهما تمسكًا شديدًا. وهي عصبية قبلية، ليس فيها شعور واضح بالجنس العربي العام، وحقًّا تكونت عندهم إمارات في الشمال؛ ولكنها ظلت تقوم على أساس العصبية القبلية، وإن بدا في تضاعيفها شعور ضئيل بالوحدة؛ لا بين القبائل الشمالية فحسب؛ بل بينها وبين القبائل الجنوبية؛ فقد كان أمراء هذه الولايات من العرب الجنوبيين كما يقول رواة الأخبار والنسابون؛ وإنما تقول شعورًا ضئيلًا، لأن أصحاب هذه الإمارات لم ينفذوا فعلًا إلى فكرة الأمة العربية أو الجنس العربي بحيث يجمعون العرب تحت لواء واحد؛ له رئيس. ومن الاتحادات التي كانت تجمعهم اتحادات الأحلاف، ويظن أن هذه الاتحادات لعبت دورًا كبيرًا في تكوين القبائل؛ إذ كانت تنضم العشائر الضعيفة إلى العشائر القوية الكبيرة لتحميها وترد العدوان عنها، والتماسهم المعاش في المتسع، وغلبة بعضهم بعضًا على البلاد والمعاش واستضعاف القوي الضعيف؛ وحالف القليل منهم الكثير، وتباين القوم في ديارهم ومحالهم، وانتشر كل قوم فيما يليهم"1 ومن القبائل التي تمثل ذلك خير تمثيل قبيلة تنوخ في العراق؛ فقد انضم إليها وتلاشى فيها كثير من القبائل والعشائر العراقية2. وبمجرد أن تدخل القبيلة في حِلْف يصبح لها على أحلافها كل الحقوق؛ فهم ينصرونها على أعدائها ويردون كيدهم عنها في نحورهم. وقد تنفصل بعض قبائل الحلف لتنضم إلى حلف آخر يحقق مصالحها، ومن ثم كنا نجد دائمًا أحلافًا تضعف وتحل محلها أحلاف أخرى. وقبائل قليلة لم تدخل في أحلاف؛ لما كان فيها من شجعان يكفونها في الحروب، أما القبائل المتحالفة؛ فكانت تهاب لخشونة مسها. وأصل الحلف والتحالف من كلمة الحَلِف بمعنى اليمين الذي كانوا يقسمونه في عهودهم، وكانوا يغمسون أيديهم في أثناء عقد أحلافهم في طيب أو في دم، وكانوا يقولون3: الدم الدم والهدم الهدم، وأقام رضوى في مكانه، إن كان جبلهم رضوى وإلا ذكروا ما يجاورهم من جبال. وربما أوقدوا النار عند تحالفهم، ودعوا الله على من ينكث العهد بالحرمان من منافعها، ويقال إن قبائل مرة بن عوف الذبيانيين تحالفت عند نار ودنوا منها حتى محشتهم "أحرقتهم"؛ فسمي حلفهم باسم المحاش. ومن الأحلاف المشهورة في مكة حلف المطيبين وقد تعاقد فيه بنو عبد مناف وبنو زهرة وبنو تيم وبنو أسد ضد بني عبد الدار وأحلافهم، ويقال إنهم غمسوا أيديهم في جفنة مملوءة طيبًا. وأكرمُ من هذا الحلف حلف الفضول وفيه تحالفت قبائل من قريش على أن لا يجدوا بمكة مظلومًا إلا نصروه وقاموا معه حتى ترد عنه مظلمته. ومن أحلاف العرب المشهورة حلف الرباب، وهم خمس قبائل: ضبة وثور وعكل وتيم وعدي، وحلف عبس وعامر ضد ذبيان وأحلافها من تميم وأسد وحلف الحمس بين قريش وكنانة وخزاعة. ولم يكن له موعد معين، وقد يخطبون، أو يستمعون إلى بعض ما ينظمه شعراؤهم، وفي أثناء ذلك يدلي سادتهم بحكمهم وتجاربهم في الحياة. وإلى ذلك يشير زهير بن أبي سُلمى إذ يقول في مديح هرم بن سنان وقومه2: وفيهم مقاماتٌ حسانٌ وجوههم وأنديةٌ ينتابها القول والفعل وكانت قرارات هذه المجالس نافذة؛ فجميع أفراد القبيلة تذعن لها ولا تشذ عليها. هو سيدها، له حنكة وحكمة وسداد في الرأي وسعة في الثروة، ويقيم الضيافات؛ فسيادته رمزية، فقتلوه؛ مما كان سببًا في نشوب حرب البسوس المشهورة. أما واجباته فكثيرة، فلا بد فيه من الشجاعة والكرم والنجدة وحفظ الجوار وإعانة المعوز والضعيف، ولا بد أن يتحمل أكبر قسط من جرائر القبيلة وما تدفعه من ديات، ولا بد أن يكون حليمًا متسامحًا، وإلى ذلك كله يشير معاوية سيد بني كلاب حين يقول1: إني امرؤ من عصبة مشهورة حشد لهم مجد أشم تليد2 ألفوا أباهم سيدًا وأعانهم كرمٌ وأعمام لهم وجدود إذ كل حي نابت بأرومة نبت العضاة فماجدٌ وكسيدُ3 نعطي العشيرة حقها وحقيقها فيها ونغفر ذنبها ونسود وإذا تحملنا العشيرة ثقلها قمنا به وإذا تعود نعود4 وإذا نواق جرأة أو نجدة كنا سُمَيَّ بها العدو نكيد5 بل لا نقول إذا تبوأ جيرة إن المحلة شعبها مكدود6 من عشيرة لها مجد فسيح الفناء، ولا بد أن يرعى حقوق هذه السيادة، وهي الحلم والصفح عن السفهاء وكظم الغيظ مع العفو والمغفرة، ولا بد له أن يبذل المال والنفس في جنايات القبيلة وأن يسارع إلى النجدة والحرب وأن يكون كريمًا مضيافًا. إذا نزل به جار أضافه وأعانه وحفظ له كل ما يمكن من حقوق الجوار. ودائمًا لا بد له من استشارتهم؛ بل لا بد له من أن يستمع إلى كل فرد من أفرد القبيلة. إذ كان لكل فرد فيها أن يجير من يشاء، وكان أفراد القبيلة جميعًا يضعون أنفسهم في خدمتها وخدمة حقوقها، وعلى رأسها حق الأخذ بالثأر ممن سولت له نفسه من القبائل الأخرى أن يعتدي على أحد أبنائها؛ وهو مع اعتزازه بفرديته وشخصيته وحريته يعيش لها وداخل إطارها، مدفوعًا في ذلك بعصبية شديدة، وهي عصبية سيطرت على نفوسهم، وقدسوها تقديسًا كان أعظم من تقديسهم للشعائر الدينية. فتلك الشعائر تشركهم فيها قبائل أخرى، وربما تسامح الواحد منهم في دينه؛ إذ لم يكن يهمه في كثير من الأحوال، أما في العصبية فإنه لا يتسامح في أي واجب من واجباتها، وكانت القبيلة من جانبها تعطي لأبنائها عليها نفس الحقوق؛ فهي تنصرهم في الملمات التي تنزل بهم ظالمين أو مظلومين؛ فحسب أحدهم أن يستغيث فإذا السيوف مشرعة، وإذا الدماء تتصبب على أتفه الأسباب. وقد تحولوا بسبب اختصاصهم على المراعي واتخاذهم الغزو وسيلة من وسائل عيشهم إلى ما يشبه كتائب حربية، فكل قبيلة مستعدة دائمًا للحرب والجلاد والإغارة على من حولها من البدو والحضر، ولذلك كانت الشجاعة مثلهم الأعلى؛ فدائمًا يفتخرون ببطولتهم وبعدد من قتلوا في حروبهم مما يدور في أشعارهم ويدور معه اعتدادهم بسيوفهم اليمانية والهندية، ولبعضها أسماء اشتهرت بينهم، 5- حروب وأيام مستمرة لعل أهم ما يميز حياة العرب في الجاهلية أنها كانت حياة حربية تقوم على سفك الدماء حتى لكأنه أصبح سُنَّة من سننهم؛ فهم دائمًا قاتلون مقتولون، لا يفرغون من دم إلا إلى دم؛ فهو شريعتهم المقدسة، وهي شريعة تصطبغ عندهم بما يشبه الصبغة الدينية؛ إذ كانوا يحرمون على أنفسهم الخمر والنساء والطيب حتي يثأروا من غرمائهم. ولم يكن لأي فرد من أفراد القبيلة حق ولا ما يشبه الحق في نقض هذه الشريعة ولا في الوقوف ضدها أو الخروج عليها، فما هي إلا أن يُقْتَل أحد منهم؛ تؤازرها في الأخذ بثأرها، ويتعدد القتل والثأر بينها وبين القبيلة المعادية، وتتوارثان الثارات حتي يتدخل من يصلح بينهما ويتحمل الديات والمغارم، ولم يكونوا يقبلونها إلا بعد تفاقهم الأمر وإلا بعد أن تأتي الحرب على الحرث والنسل. أما قبل ذلك فكانوا يعدونها سبة وعارًا وفي ذلك يقول عبد العزى الطائي1: فالدم لا يشفيهم منه إلا الدم، وكأنما أصبح سفكه غريزة من غرائزهم لا تزايلهم؛ فهم يطلبونه وهم يتعطشون إليه تعطشًا شديدًا على شاكلة تأبط شرًّا إذ يقول2: قليلُ غرار النوم أكبر همه دم الثأر أو يلقى كميًّا مُسَفَّعا فأكبر ما يهتم به وينصب له طلب الثأر ولقاء بطل سفعت وجهه الهواجر. وأكثر حروبهم كان يجرها نزاع بين بعض الأفراد في قبيلتين مختلفتين؛ إما بسبب قتل أو بسبب إهانة، أو بسبب اختلاف على حد من الحدود، وحينئذ تشتبك عشيرتا هؤلاء الأفراد، وتنضم إلى كل عشيرة عشائر قبيلتها، وصور ذلك شاعر الحماسة؛ إذ يقول3: والحرب يلحق فيها الكارهون كما تدنو الصحاح إلى الجربَى فتُعْديها فهي تبدأ صغيرة ضعيفة، فتصبح لها عدوى كعدوى الجرب، فهي أمنيتهم ومبتغاهم، يقول زهير4: إذا فزعوا طاروا إلى مستغيثهم طوالَ الرماح لا ضعافٌ ولا عُزْل5 فإن يُقْتَلوا فيُشْتَفى بدمائهم وكانوا قديمًا من مناياهم القتلُ فجميعهم يطيرون إلى المستغيث بخيلهم ورماحهم، وتدور رحى الحرب فيقتلون من أعدائهم ويشفون حقدهم ويقتل منهم أعداؤهم ويشفون غليلهم. يقول دريد بن الصمة1: وإن لَلَحْمُ السيفِ غيرَ نَكيرةٍ ونُلحمه حينًا وليس بذي نُكْرِ2 يُغار علينا واترين فيشتفى بنا إن أصبنا أو نغير على وتر3 يطعمونها أعداءهم، ويطعمهم أعداؤهم لها في غير نكران؛ فهم دائمًا واترون موتورون، ولم يكونوا يرهبون شيئًا مثل الموت ختف الأنف بعيدًا عن ميادين القتال، ميادين الشرف والبطولة؛ ولا تقبروني إن قبري محرم عليكم ولكن أبشرِي أم عامر وأن يترك بالعراء في ساحة الحرب تنوشه السباع، وكانوا يسمون حروبهم ووقائعهم أيامًا؛ وأيامهم وحروبهم كثيرة، ولم يصلنا هذا الكتاب؛ وإنما وصلنا شرحه لنقائض جرير والفرذدق وفيه طائفة كبيرة منها. وألف فيها من بعده كثيرون أحصاهم ابن النديم في المقالة الثالثة من الفن الأول بكتابه الفهرست. وفي كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني وشرح حماسة أبي تمام للتبريزي منثورات منها كثيرة. وعقد لها ابن عبد ربه في العقد الفريد وابن الأثير في الجزء الأول من كتابه الكامل والنويري في نهاية الأرب فصولًا طويلة، وكذلك صنع الميداني في الفصل التاسع والعشرين من كتابه مجمع الأمثال؛ إذ تناول منها مائة واثنين وثلاثين يومًا ضبط أسماءها وذكر القبائل التي اشتركت في كل منها. وتسمَّى هذه الأيام والحروب غالبًا بأسماء البقاع والآبار التي نشبت بجانبها مثل يوم عين أباغ، وكان بين المناذرة والغساسنة ومثل يوم ذي قار وكان بين بكر والفرس ويوم شعب جبلة وكان بين عبس وأحلافها من بني عامر وذبيان وأحلافها من تميم. وقد تسمى بأسماء ما أحدث اشتعالها مثل حرب البسوس وحرب داحس والغبراء. ومن أيامهم المشهورة يوم خزاز وكان بين ربيعة واليمن من مَذْحج وغيرهم ويوم طخفة بين المنذر بن ماء السماء وبني يربوع، ويوم أوارة الأول بينه وبين بني بكر ويوم أوارة الثاني بين ابنه عمرو بن هند وبني تميم، ويوم ظهر الدهناء بين بني أسد وطيء، وأيام الأوس والخزرج ومر ذكرها في غير هذا الموضع، ويوم اللوى بين غطفان وهوازن ويوم الكلاب الثاني بين تميم وبني عبد المدان النجرانيين ويوم الوقيط بين تميم وربيعة، وكذلك يوم جَدود وذي طُلوح والغبيط وزبالة ومبايض والجفار. ويوم الرحرحان بين قيس وتميم، وكذلك الصرائم والمروت والنسار. ويوم بُزاخة بين ضبة وإياد ويوم دارة مأسل بينها وبين بني عامر. وكانوا لا يقتتلون في الأشهر الحرم. ومع ذلك وقعت فيها بعض مناوشات تسمى بأيام الفجار بين كنانة وهوازن يومها الأول، أما يومها الثاني فكان بين كنانة وقريش، وسنقف قليلًا عند حرب البسوس وحرب داحس والغبراء لأنهما من أشهر حروبهم وأطولها زمنًا. أما حرب البسوس؛ ولما علم جساس بما حدث؛ ثأر لكرامته، وسنحت له فرصة من كليب فقتله، ودارت رحى حرب طاحنة ظلت -فيما يقال- أربعين سنة؛ فكثرت أيامها مثل يوم عُنَيْزة وكان سجالًا بين الطرفين، ولما أنهكت الحرب الفريقين لجأ إلى الحارث بن عمرو الكندي؛ فأصلح بينهما، وأقام كما مر بنا على بكر ابنه شرحبيل وعلى تغلب ابنه سلمة. ونمت في العصور الإسلامية أساطير حول هذه الحرب وبطلها التغلبي المهلهل أخي كليب، وألفت عنه قصة شعبية باسم "الزير سالم". وأما حرب داحس والغبراء؛ وكان السبب في نشوبها سباقًا على رهان بين الفرسين، فسميت باسميهما، وحذيفة بن بدر، فعدل عن الطريق. وبذلك سبقته الغبراء، وأبى قيس أن يعترف بهذا السبق وطلب الرهان المضروب. وظلت سنوات طويلة حتى تدخل سيدان من ذبيان هما هرم بن سنان والحارث بن عوف المري. فتحملا ديات القتلى؛ وبذلك وضعت الحرب أوزارها بين القبيلتين ومن كان قد انضم إليهما من الأحلاف؛ وعلى نحو ما نمت الأساطير حول المهلهل بطل حرب البسوس نمت حول عنترة بطل هذه الحرب،