والمعاصرة بهذا المعنى تقتلع الجذور، ولا تعني المعاصرة فقط نقل أحدث وسائل العلم والتكنولوجيا إلى المجتمعات، فالعلم ليس هو نتيجة العلم أو تطبيقات العلم بل هو التصور العلمي للعالم، والمنهج العلمي في حل المشكلات. فلا يمكن أن ينقل نتاج العلم والتكنولوجيا في مجتمعات تحركها الخرافة، صحيح أن التكنولوجيا تحضر قيمها معها، ولكنها في الغالب لا تكون قيم العلم والسيطرة على قوانين الطبيعة والتنبؤ بمسارها بل قيم الاستهلاك. ولا تعني المعاصرة أيضاً نقل آخر صيحات العصر في أساليب الحياة، في الفن والعمارة والزينة والعطور، والتمتع بما يقدمه العصر من وسائل رفاهية العيش. المعاصرة بهذا المعنى لباس لقشرة الحضارة، ونقل لأسلوب حياة مجتمع الوفرة والرفاهية إلى مجتمع الندرة وشظف العيش وهي مجتمعات النهضة والتنمية، بل وإغفال حتى لما تعتز به من تراث حضاري. ولا تعني المعاصرة أيضاً قطع الصلة بالماضي، واقتلاع الجذور، واعتبار الماضي أحد المعوقات عن المعاصرة. وهنا تتحول المعاصرة وكأنها نوع من احتقار الذات، فتتقلص الحضارات والثقافات المحلية للشعوب، وتنزوي إلى متاحف التاريخ، وتصبح الثقافة «الغربية» وهي النموذج الأكثر انتشاراً، ثقافة عامة وشاملة لكل الشعوب يقلدها الناس، لا هي استطاعت اقتلاع جذورها، وهنا تبدو ظواهر «التفرنج». وتتكون طبقة اجتماعية أو تصبح مجتمعات بأكملها لا مكان لها ولا زمان تلفظها المجتمعات المحلية ولا تقبلها المجتمعات العصرية، كما تفقد أهليتها في ممارسة أي دور في التقدم والنهضة. إنما تعني المعاصرة مجابهة مشكلات الواقع، فالمعاصرة تعني هنا رؤية الواقع والإحساس به، وتعني أن يعيش الإنسان أحداث الزمن، وأن يرفض جميع أشكال الزيف لتغليف الوعي القومي وتعميته ودفعه نحو الغربة والاغتراب. كما تعني المعاصرة كذلك عدم إغفال شيء من مكونات الواقع أو ابتسار جزء منه، فالتراث مثلاً جزء من الواقع، ويؤثر عليه من خلال سلوك الناس ورؤية الجماهير له. والضنك والبؤس والفقر والجوع والحرمان واقع اجتماعي عريض للأغلبية الصامتة في بعض مجتمعاتنا. كما أن التسيب والخلل والفوضى وغياب العلاقات الواضحة بين الأفراد جانب أيضاً في واقعنا الاجتماعي. واختفاء الصالح العام كل ذلك أيضاً أحد مكونات مشاعر بعض الجيل وإحساسات العصر. وتعني المعاصرة أيضاً البحث عن الواقع في أساسه وليس في فروعه، والبحث عن الحلول الجذرية لقضاياه الأساسية وليس عن الحلول المؤقتة التي سرعان ما تتبدد وتبقى القضايا معلقة ودائمة بعد أن ينقضي أثر الحل الوقتي. وبهذا المعنى لا تكون المعاصرة استسلاماً للأمر الواقع بل هي بحث في جذوره التاريخية وأبنيته الحاضرة ومتغيراته المستقبلية. وبهذا المعنى أيضاً لا تعني السير وفقاً لمنطق الأحداث الواقعة تمشياً مع التيار السائد. فالعصري بهذا المعنى اشتراكي مع الاشتراكيين، بل تعني المعاصرة أخذ موقف واضح ودائم من الواقع. وتعني إيثار الصالح العام على الصالح الخاص.