مــقــدمــة يعتبر الحفاظ على المال العام من اهتمامات الدولة الأولى، لما له من انعكاسات كبيرة على كافة مناحي الحياة سواء كانت الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية أو الأمنية ، لذلك كان الاستقرار المالي أولوية توليها الدولة لأجهزة الرقابة المالية فيها، تتولى من خلالها ضبط العمل المالي والإداري وتحسين الأداء، بما يكفل لها الإشراف العام على كافة الجهات الخاضعة لرقابتها ورسم السياسات العامة لها والتي تعمل بدورها على ترشيد النفقات العمومية ورفع كفاءة العاملين في الأداء المالي والإداري وحسن التصرف والاستخدام من خلال ضبط الإجراءات. والجزائر على غرار باقي الدول اعتمدت على أجهز رقابية مختلفة ومتنوعة منها الداخلية تمارسها أجهزة تابعة للسلطة التنفيذية وخارجية تمارس فيها الرقابة على أجهزة السلطة التنفيذية من طرف أجهزة مستقلة كلها تصب في هدف الرقابة على الأموال العمومية. ومن بين أجهزة الرقابة الداخلية مصالح الرقابة المالية أو ما أصبح يعرف حاليا بمصالح الرقابة الميزانياتية وهي عبارة عن مصالح رقابية تابعة للمديرية العامة للميزانية بوزارة المالية مهمتها الرقابة القبلية على الالتزام بالنفقات التي تقوم بها الهيئات العمومية في مرحلة تنفيذ الميزانية العامة للدولة، فهي رقابة مشروعية لا تسمح للخاضعين لرقابتها بتمرير النفقات الغير مطابقة للقوانين والأنظمة المعمول بها،للمحافظة على الموازنات العامة للميزانية العامة للدولة. ولهذا احتلت الرقابة الميزانياتية مكانة جد مهمة في تنفيذ النفقات العمومية خاصة بعد توسع الإنفاق الحكومي وتعدد مجالاته باعتبارها الجهاز الذي يشرف على منح التأشيرة التي تثبت وقوع الدين على عاتق الدولة بعد الـتأكد من شرعية النفقات واستفائها لكامل الشروط المنصوص عليها في التشريعات والتنظيمات المعمول بها والسماح باستكمال باقي إجراءات تنفيذ النفقات العمومية وفي الأخير إبلاغ المصالح المختصة بإعداد الميزانية العامة بإحصائيات تنفيذ النفقات العمومية وجملة الصعوبات والنقائص التي تعترض سبيل تنفيذها.وقد تجلت أهمية مصالح الرقابة الميزانياتية، خاصة بعد الدور الذي لعبته خلال الوضع الاقتصادي الذي عرفته الجزائر مع نهاية سنة 2014، الذي عرف تدهور أسعار البترول في الأسواق العالمية أدى إلى تدني الموارد العمومية وأحدث اختلالات في توازن الميزانية العامة للدولة، أدى بالحكومة ولتجاوز هذه الأزمة إلى سلوك نهج ترشيد النفقات العمومية والحد من مظاهر الإسراف والتبذير الذي عرفته في ظل الرخاء المالي، ومن بين المصالح التي ارتكزت عليها قصد تجسيد هذه الآلية هي مصالح الرقابية الميزانياتية قصد استعادة التوازنات الداخلية والخارجية للبلاد إلى غاية إيجاد الإطار التشريعي والتنظيمي الذي يضمن مواصلة المسار التنموي. وكل هذا أدى إلى التأكد من وجود أزمة حقيقية في مجال تسيير المالية العمومية والإطار القانوني المنظم لها، حيث أبان القانون الإطاررقم:84/17 المتعلق بقوانين المالية، عن اختلالات عميقة بسبب عدم قدرته على مواكبة التحولات التي شهدها تسيير المالية العمومية مما جعل إصلاحه ضرورة تفرضها الظروف الداخلية وتمليها مواكبة التطورات الدولية في مجال تسيير المالية العمومية، وهذا ما تجسد بصدور القانون الـــعضوي رقم:18/15 الــــمؤرخ في02/09/2018 الــمتعلق بقوانين الـــمالية والذي ألــغى الـــقانون رقم:84/17، وأحدث ثورة في مجال تسيير المالية العمومية والقوانين التي تؤطرها. إن مصالح الرقابة المالية السابقة في الجزائر اجتازت عدة مراحل متعلقة أساسا بالتنظيم وبالمهام وهذا تبعا لمختلف الخيارات الاقتصادية والاجتماعية التي طبعت الدولة الجزائرية ففي الفترة الاستعمارية كان جهازا مركزيا ابتداء من 1950 بعد أن أعطيت له صلاحيات واسعة وتلتها توسيعات تنظيمية وذلك بإنشاء مصالح خارجية للرقابة المالية على مستوى الولايات الكبرى وهي الجزائر، قسنطينة ووهران وعلى أن يعمل المراقبون الماليون فيها تحت إشراف المراقب المالي العام للجزائر والذي يقوم من جهته بالعمل على التنسيق بينهم. وفي سنة1955 أدى التقسيم الإقليمي إلى إعادة تنظيم مصلحة الرقابة المالية بتعيين مراقبين ماليين جدد على مستوى مصالح المراقبة المالية للولايات المستحدثة.واستمر الحال على ذات المنوال حتى سنة1968عندما تم إخضاع المراقبين الماليين لوزير المالية ووضع القانون الأساسي الخاص بهم بالمرسوم رقم:68/238 الصادر في30/05/1968 المتضمن القانون الأساسي الخاص بالمراقبين العامين للمالية، وانطلاقا من سنة 1969 أصبحت مهام الرقابة المالية تحت إشراف مديرية الميزانية والمراقبة التابعة لوزارة المالية والتخطيط، وبحلول سنة1990 التي كانت منعرج في الرقابة المالية بصدور القانون الخاص بالموظفين المكلفين بالمالية رقم:90/334 الصادر بتاريخ 27/10/1990 ثم تبعها صدور المرسوم التنفيذي رقم:92/414 المعدل والمتمم بموجب المرسوم التنفيذي رقم:09/374 والذي حدد فيه مهام المراقب المالي والمراقب المالي المساعد، ومجال تدخلهم وآليات الرقابة المالية المسبقة. ومع التطور المستمر للنفقات الملتزم بها وتوسع مجالاتها كان سببا لتنظيم هيكل المصالح الخارجية للمديرية العامة للميزانية بصدور المرسوم رقم:91/496 بتاريخ 21/12/1991 المتضمن تنظيم المصالح الخارجية للمديرية العامة للميزانية، الذي حدد مصالح الرقابة المالية مع ذكر عدد المكاتب المقررة للمصلحة، والقرار الوزاري الصادر25/08/1992 عن وزير الاقتصاد حدد بموجبه عدد المراقبين الماليين المساعدين وعدد المكاتب على مستوى الولايات وفي أواخر سنوات التسعينات وبالأخص سنة 1998 تم إعادة هيكلة وزارة المالية عن طريق توحيد ميزانية التسيير مع ميزانية التجهيز للدولة حتى السنوات العشرية الأولى للألفية والتي تميزت بإعادة هيكلة الإدارة المركزية لوزارة المالية عن طريق المرسوم التنفيذي رقم:07/364 وتنظيم المصالح الخارجية لها وتحديد مهام المراقبين الماليين ومساعديهم بصدور عدة نصوص تنظيمية تأطر تنظيم هذه المصالح وسيرها وتحديد المهام، وبالإضافة لصدور القانون الأساسي للموظفين التابعين لإدارة للميزانية رقم:10/297، إلى غاية أخر تحديث لهيكلة المصالح المركزية لوزارة المالية وهذا في إطار عصرنة نظام الميزانية بالمرسوم التنفيذي رقم:21/252 المؤرخ في06/06/2021، في انتظار صدور النصوص التنظيمية التي تأطر مصالح الرقابة الميزانياتية على المستوى المحلي تماشيا مع الإصلاحات والمهام الجديدة التي سوف تصبح للمراقب الميزانياتي. إن مصالح الرقابة الميزانياتية وباعتبارها موضوع بحثنا أوكلت لها مهام الرقابة القبلية على النفقات الملتزم بها لضمان شرعية التصرفات المالية وحماية المال العام، لذا شهدت هذه الهيئات تغيرات في تنظيمها الهيكلي والوظيفي لمواكبة الأفكار الحديثة في تسيير المالية العمومية بغية التخفيض من حدة المخاطر المتعلقة بالفساد المالي على مختلف المستويات والمؤسسات في الدولة ويعتبر العنصر البشري أهم طرف في تحقيق هذا المبتغى والمتمثل في المراقب الميزانياتي والمراقب الميزانياتي المساعد والموظفين التابعين لمصالح الرقابة الميزانياتية حيث أولى لهم المشرع أهمية خاصة بتحديد مهام كل واحد ومسؤولياتهم وطريقة تعيينهم، والصلاحيات التي منحت لهم في إطار تأدية مهامهم عن طريق نصوص تنظيمية التي تؤطرهم ، كل هذا تحقيقا لحكامة مالية واستقلالية في أداء مهامهم، تحقيقا لحوكمة رشيدة في قطاع المالية والتحسين من نجاعة الإنفاق العمومي.تبرز أهمية الدراسة من زاويتين أساسيتين علمية وعملية:*من الناحية العلمية لبحثنا،يمكن اعتبار موضوع الدراسة من المواضيع الجديرة بالمناقشة والتحليل، حيث يكتسب هدا البحث أهميته العلمية بالخصوص من حيث ارتباطه بمجالين قانونيين يطرحان العديد من الإشكالات القانونية والعلمية، ويتعلق الأمر بمجال النفقات العمومية من جهة أولى، والذي يمثل بحد ذاته أحد المواضيع الجديرة بالطرح على طاولة النقاش، بالإضافة إلى ارتباطه بمجال الرقابة الميزنياتية الذي لا يزال إلى يومنا هذا يثير الكثير من الإشكالات والنقاشات من جانب الحقوقيين. ولذلك يمثل موضوع الدراسة في إطاره الجغرافي وفي نطاقه الزمني، أولوية علمية تثير الكثير من التساؤلات والإشكالات التي سنتطرق إلى طرحها، ومناقشتها واقتراح الحلول الكفيلة بإصلاح الوضع. وتبرز أهمية الدراسة أكثر فأكثر، في إطارها العملي من خلال ربطها بالظروف والمعطيات السياسية، الاقتصادية والاجتماعية التي يفرضها الواقع، فبالنظر للتجاوزات والممارسات غير القانونية والتلاعبات التي عرفتها تنفيذ ميزانيات العامة للدولة، ودخول الجزائر مرحلة جديدة من خلال إصلاح منظومتها الميزانياتية، والتوجه نحو حوكمة مالية لمسايرة التطور الحاصل على المستوى العالمي في مجال تسيير المالية العمومية. تظهر كذلك أهمية وضع مرحلة تنفيذ الميزانية العامة للدولة تحت المجهر، من خلال الكشف عن مواطن الخلل التي تعتريها، والثغرات القانونية التي تتخللها في سبيل إيجاد الصيغ والحلول الكفيلىة بإعادة تصحيح الوضع، بتفعيل دور المصالح الرقابية لتحقيق مشروعية النفقات العمومية في ظل تطبيق مؤشرات الحوكمة.*أسباب اختيار الموضوع إن أسباب اختيار موضوع بحثنا تتصرف بين دوافع ذاتية وأخرى موضوعية،من الأسباب الذاتية تتجلى رغبتنا في تناول موضوع البحث باعتبارنا موظفين بالرقابة الميزانياتية فهو ميدان تخصصنا وكذلك إبراز إيجابيات وسلبيات تدخل هذه المصالح في الرقابة على مختلف المؤسسات وهو محل إشكالات قانونية مطروحة بالإضافة إلى الإشارة إلى الدور الجديد الذي سوف يكون لهذه الأجهزة الرقابية في إطار الإصلاح الميزانياتي الجديد. بينما تتمثل الأسباب الموضوعية في الرغبة في إثراء المكتبة القانونية في مجال الرقابة الميزانياتية والوقوف على دور هذه المصالح الرقابية في ظل انتشار جرائم الفساد المالي،*دراسات سابقة بما أن الموضوع محل الدراسة ذا أهمية بالغة، المراقب المالي في الجزائر، مذكرة لنيل شهادة الماجستير فرع الإدارة والمالية العامة، كلية الحقوق بن عكنون، جامعة الجزائر، سنة2014، حيث خلصت دراسته الى عدة نتائج من بينها الرقابة المالية السابقة عملية فنية تحتاج إلى تظافر الأيدي والجهود بغرض التأكد من شرعية النفقة، الذي يفترض توفر الخبرة والتجربة في المراقب المالي ، الأجهزة الرقابية على الميزانية (الدور والفعالية)، رسالة من أجل درجة دكتوراه دولة في العلوم، كلية الحقوق و العلوم السياسية، جامعة تلمسان،سنة2018، و مدى فعاليتها ونجاعتها، وانسجام مختلف مستويات الرقابة القاعدية والرقابة العليا، الدور الرقابي على مالية الدولة وميزانيات الجماعات الإقليمية، أطروحة دكتوراه علوم في العلوم الاقتصادية،كلية العلوم الاقتصادية التجارية وعلوم التسيير، جامعة الجزائر، سنة2019، هدفت الدراسة على اظهار أهمية الرقابة المالية السابقة في ظل الأزمة الاقتصادية التي تمر بها الدولة الجزائرية، وسياسة التقشف المتبعة في دراسة وترشيد النفقات العمومية، وذلك بإبراز دور وفعالية المراقب المالي على ميزانية الجماعات المحلية،إضافة إلى الدراسات السابق ذكرها التي تخدم موضوع بحثنا فإن ما يميز هذه الدراسة عن الدراسات السابقة أن دراسنا تركز على دور مصالح الرقابة الميزانياتية في تحقيق مشروعية النفقات العمومية لكافة الميزانيات، وهي دراسة تحليلية لما جاء في التشريعات والنصوص المتعلقة بالرقابة الميزانياتية والتي تفعل وتعزز وتثمن دورها بعدة مؤشرات تحقق نجاعة أدائها وجودته، تحقيقا لترشيد النفقات العمومية، وكذا دورها الهام في إطار القانون العضوي رقم:18/15 المتعلق بقوانين المالية الذي دخل حيز التنفيذ سنة2023 وما جاء فيه من مستجدات من تغيرات على الميزانية التي تعد المحور الأساسي لوظيفة المراقب الميزانياتي وترسانة القوانين والنصوص التي صدرت في ظله.-النقص الكبير في المراجع المتخصصة في دراسة مصالح الرقابة الميزانياتية وإن وجدت فهي غالبا ما تقتصر على الجانب النظري، لذا اعتمدنا في بحثنا على الجانب التطبيقي إستنادا إلى النصوص القانونية وبما هو معمول به على أرض الواقع.- الفترة الزمنية لإعداد هذه المذكرة هي مرحلة انتقالية لاسيما من الجانب التشريعي وتوجه الجزائر نحو إصلاح الإطار الميزانياتي وعصرنته ويعني ذلك إمكانية وجود تغيرات مستقبلية للقوانين السارية المفعول وإلغاء بعض القوانين المؤطرة للرقابة الميزانياتية دون أخرى.* إشكالية الدراسة:في ظل المعطيات المقدمة أعلاه، يطرح موضوع الدراسة الإشكالية الرئيسية التالية: ما واقع الرقابة التي تمارسها مصالح الرقابة الميزانياتية ومدى فعاليتها في تحقيق مشروعية النفقات العمومية في الجزائر؟ ويندرج ضمن هذا الإشكال الرئيسي، تسؤلان فرعيان على النحو التالي:1– هل ساهم التنظيم الهيكلي والعضوي لمصالح الرقابة الميزانياتية في تحقيق لها الاستقلالية والكفاءة في الأداء؟2–ما مدى فعالية التنظيم الوظيفي والصلاحيات المخولة لمصالح الرقابة الميزانياتية في تحقيق الأمن القانوني؟* منهجية الدراسة: محاولة منا للإجابة على التسؤلات المطروحة أعلاه،اعتمدنا أساسا على المنهج الوصفي التحليلي فيغالب الجزيئات المتناولة في هذا الموضوعبدءابالإطار النظري لمصالح الرقابة الميزانياتية وهيكلتها، كما وظفنا خلال هذه الدراسة مقاربة منهجية تاريخية في بعض جزيئات الموضوع، ارتبطت بتأثر الإطار القانوني والمؤسساتي لمصالح الرقابة الميزانياتية بمختلف التوجهات السياسية والاقتصادية التي مرت بها الجزائر عبر مختلف مراحل التاريخية التي عرفتها المنظومة القانونية للمالية العمومية.* خطة الدراسة: للإجابة على الإشكالية التي تتمحور حولها هذه الدراسة، وللإحاطة بمختلف جوانب والإشكالات التي تطرحها، ارتأينا تقسيم هذا البحث إلى فصلين أساسيين: على أن يتضمن كل فصل مبحثين، في محاولة منا لطرح المفاهيم العامة والجزيئية، في إطار منهجي يساهم في تحقيق التوازن الشكلي والموضوعي للبحث. وعلى هذا الأساس، قمنا بتضمين الفصل الأول،