إذ حضره نحو ثلاثمائة من رجال الدين في الشرق والغرب ترأسه الإمبراطور قسطنطين نفسه ، على الرغم من أنه لم يكن معمدا وقد أدان مجمع نيقية أريوس ، وبالتالي تقرر نفيه إلى إليريا والتخلص من كتاباته وتحريم تداولها واضطهاد أتباعه من الأريوسيين. ومنها انتقلت إلى الأمم الجرمانية بواسطة المبشرين ورجال الدين. ولعل بقاء المذهب الأريوسي قويا في الشرق كان من العوامل التي أدت بالإمبراطور قسطنطين إلى تغيير رأيه ، فاستدعى أريوس من منفاه سنة ۳۲۷م ونستطيع أن نعلل هذا التغيير الذي طرأ على مسلك قسطنطين بما كان يعتزمه الإمبراطور من نقل عاصمته إلى القسطنطينية ، وهو الأمر الذي تم فعلا عام ۳۳۰ م مما استلزم استرضاء أهالي الجزء الشرقي من الإمبراطورية، وتؤكد هذه الخطوة من جانب قسطنطين الرأي القائل بأنه كان على استعداد لتغيير ميوله المذهبية - بل الدينية - وفق ما تتطلبه مصالحه السياسية حيث أنه ظل يؤيد المذهب الأثناسيوسي طالما كانت عاصمته في الغرب ، ولكنه عندما شرع في نقل عاصمته إلى الشرق وأحس بالحاجة إلى استرضاء سكان القسم الشرقي من الإمبراطورية ، لم يجد غضاضة في تغيير عقيدته أو ميوله نحو المذهب الأريوسي لذا تم عقد مجمع دينى جديد في صور سنة ٣٣٤م ألغي قرارات مجمع نيقية السابق ، مما جعل من اليسير انتقال الآراء والأفكار والمعتقدات في سهولة بين مختلف أنحاء الإمبراطورية ، وبالتالي انتشار المسيحية ووصولها إلى أقصى أطراف البلاد وكان الوضع المعروف في النظم الرومانية أن فئة واحدة من كبار الموظفين كانت تمسك بزمام جميع الوظائف الكبرى في الدولة ، أى أنه يجب على جميع الرعايا - مع اختلاف عقائدهم - أن يعترفوا بعبادة الإمبراطور القائم وهو اجراء يشبه يمين الولاء للحاكم حاليا) ، ولم يعف من هذا التكليف الأخير داخل حدود الإمبراطورية الرومانية سوى اليهود ، في حين لم يتمتع المسيحيون بهذا القدر من الحرية الدينية ومن الثابت أن المسيحية لم تكن الديانة الأجنبية الوحيدة التي كان على الحكومة لذلك يبدو أن الأمر اختلط على الرومان في أول الأمر فظنوا أن المسيحية ليست إلا فرقة من الديانة الموسوية اليهودية ، فأخذ المسيحيون يجتمعون سرا لمباشرة طقوسهم الدينية ، واتخذوا الأحد أول أيام الأسبوع ليكون ذا صفة دينية بدلا من السبت عند اليهود، وكان أن بدأت الحكومة الرومانية تعتبر اعتناق المسيحية جرما في حق الدولة ، اذ قدم مسيحي روما طعاما للنار العظيمة التي أشعلها سنة ٦٤ م ، لأن روح الشجاعة والصبر والإيمان التي واجه بها شهداء المسيحية مصيرهم أصبحت موضع اعجاب الكثيرين الذين أقبلوا هم الآخرون على اعتناق الديانة الجديدة، وهكذا لم يكد يحل القرن الثالث إلا وكانت المسيحية قد أصبحت قوة خطيرة نتيحة لازدياد عدد أتباعها ازديادا مطردا ، ويبدو أن هدف دقلديانوس من هذه السياسة كان محاولة اجبار الكنيسة - عن طريق الاضطهاد على الخضوع للدولة ، شأنها شأن بقية الهيئات والمنظمات الاجتماعية في الدولة الرومانية . أمر يتعارض مع المبدأ الأول الذي أقام عليه دقلديانوس نظامه الذي يقضي بخضوع جميع الرعايا لسيادة الدولة المطلقة. ومهما يكن من أمر فان المسيحية خرجت من جميع المعارك ظافرة مرفوعة الرأس، لاسيما بعد أن اعترف الإمبراطور قسطنطين بسياسة الأمر الواقع وأصدر مرسوم ميلان الشهير عام ٣١٣م معترفا بالديانة المسيحية كإحدى الشرائع المصرح باعتناقها داخل الإمبراطورية ، بمعنى أن يتمتع المسيحيون في الإمبراطورية بكافة الحقوق التي تمتع بها غيرهم من أتباع الديانات الأخرى ويضمن للمسيحيين وكافة الطوائف الأخرى حرية اختيار وممارسة العقيدة التي يرتضونها وبذلك ضمن من وجهة نظره) رضاء جميع الآلهة والقوى السماوية ، وأمر مرسوم ميلان برد جميع الحقوق الدينية إلى المسيحية التي حرموا منها ظلماً وعدواناً ، وأن تُعاد للكنيسة جميع أماكن العبادة والأراضي العامة المصادرة دون جدل أو إبطاء أو تكلفة . الوثنية وفكرة تأليه الأباطرة ، لأدركنا أهمية هذه الخطوة التي أقدم عليها قسطنطين. وقد اختلفت آراء الباحثين حول الدافع الذي جعل قسطنطين يصدر هذا المرسوم ، ولعل النصوص التي أوردها المؤرخون المعاصرون لعصر قسطنطين هي التي أوجدت جدلاً حول هذا الموضوع فنجد أحدهم يشير أن الإمبراطور اعتنق المسيحية منذ اللحظة الأولى من حكمه ، بينما يرى آخر أن إيمان قسطنطين مرجعه إلى شارة الصليب التي ظهرت في السماء عام ۳۱۳ م وموجز هذه الرواية أن قسطنطين عندما كان يعد العدة للقاء منافسه ماكسنتيوس Maxentius شهد في السماء راية الصليب فاتخذ الإمبراطور تلك الراية شعارا في حروبه . تذكر أن قسطنطين لم يعمد إلا على فراش الموت حيث وضع الأسقف يده على رأسه وأتم اجراء الطقوس الدينية ، كما توجد أدلة أخرى عديدة توضح استمرار اعتناقه الوثنية، ذلك أن عدد المسيحيين عندئذ لم يتجاوز عشر مجموع سكان الإمبراطورية ، وكانت المسيحية أوسع انتشارا وأشد تركيزا في الشرق منها في الغرب ، بحيث أن آسيا الصغرى غدت من المراكز الرئيسة للمسيحية في القرن الرابع ، هذا في الوقت الذي كان قسطنطين قد انتصر على خصمه ماكسنتيوس في موقعة جسر ملويان Milvian Bridge بإيطاليا سنة ٣١٣م ، وبذلك دان لسلطانه الجزء الغربي من الإمبراطورية ولم يبق أمامه سوى اخضاع جزئها الشرقي ، له السيادة العامة على الإمبراطورية كلها لذلك لا يستبعد أن يكون قسطنطين قد أصدر مرسوم ميلان غداة انتصاره على ماكستنيوس في الغرب ليفتح أمامه أبواب الشرق ، وقيل أن قسطنطين رأى في منامه المسيح ومعه الصليب وأمره باتخاذ هذا الصليب شعارا له خلال الزحف على عدوه ، وتعهد بحماية أرواح المسيحيين وممتلكاتهم أسوة ببقية رعايا الإمبراطورية ، ومن هذا يبدو أن سياسة قسطنطين الدينية تمثل حلقة انتقال ، حيث أبقى على الوثنية القديمة ورجالها و معابدها وطقوسها ، كما احتفظ مثل أسلافه من الأباطرة بلقب الكاهن الأعظم Pontifex Maximus أما بلاطه فقد أصبح يغص بالأساقفة والقساوسة من مختلف المذاهب المسيحية ، جنبا إلى جنب مع الكهنة والفلاسفة الوثنيين . كما نقشت على نقوده شعارات المسيحية والوثنية، وقد شهدت المسيحية منذ أوائل عهدها خلافات مذهبية خطيرة كان لها أثر عظيم في تاريخ الشرق والغرب جميعا ، قسمت المسيحيين وبالتالي العالم الروماني إلى معسكرين وأثارت البغضاء الدينية والسياسية بينهما لمدة قرنين من الزمان ، ذلك أنه حدث خلاف بين اثنين من رجال الكنيسة بالإسكندرية حول تحديد هذه العلاقة ،