وكانت قد تبقت ثلاثة أيام فقط على سفري الموعود إلى منطقة طوكر، لزميل آخر سلّمته العيادة أيضًا بكل ما فيها وليس فيها، ووعد بردها إلي بعد أن أعود من شدتي، وظللت متبطلا أجلس ساعات في استراحة الأطباء الكبيرة وسط المستشفى بلا عمل، وسط عشرات بل مئات من المتسولين الغريبي الأطوار الذين يترددون على مكتبه أو مكاتب غيره يوميًا بلا انقطاع ، يدعون أنها تخصهم أو تخص أقاربهم، بعضهم يحمل مرض الجذام جليًا في وجهه وجسده، وبعضهم بلا أيد أو أرجل وأستغرب كيف تسلقوا ذلك السلم الحلزوني للعمارة، والذي تعجز حتى الأقدام الصحيحة عن تسلقه. طلبت إليّ زميلة حديثة التخرج، عملت ثلاثة أشهر في قسم التوليد، وانتقلت إلى قسم آخر، أن أساعدها في مناوبتها المسائية في العيادة الخارجية، وكنتُ أعرف حجم تلك المناوبات، وباحثين عن فرص لإزعاج النسوة المريضات حقيقة ، واللائي يصادف وجودهن في العيادة الخارجية. إنه الطابور الطويل بلا نهاية، الذي اصطاد منه إدريس علي ذات يوم مريضة قلقة اسمها هويدا، وزودني بحسرات كبيرة على مصيرها، لم أكن لأتزود بها لولاه الطابور الذي لا ينظمه أحد، ولا يعبأ بانسيابه أو عدم انسيابه أحد، والطابور الذي قد يموت فيه مريض حقيقي لأن مئات من الأصحاء يقفون فيه، يصنعون ستارا ثقيلا بينه وبين الطبيب الذي ربما ينقذ حياته. استجبت للزميلة بلا تردد. جلسنا على مقعدين متجاورين على الطاولة القديمة ذات الطلاء الأبيض المقشر، الذي لم يجدد منذ أن صُنعت أمامنا أوراق صغيرة، وفي مواجهتنا طاولة الفحص التي نرقد عليها المريض، وشبيهة بتلك التي رجها إدريس في عيادتي، وسيكلف شقيًا اسمه هارون باستبدالها، وما ظهر إدريس بشخصه، ولا هارون الذي فكرت أكثر من مرة أن أبحث عنه في ورش النجارة المحدودة في حي النور الشعبي. كنتُ أفحص الرجال الأصحاء بغضب، فجأة دخل إلى الغرفة رجلا شرطة بزيهما الرسمي، ويرافقان ثلاثة مرضى قدما بهم من سجن مدينة سواكن الأثرية، حيث يقضون عقوبتهم، - وأين السجناء الثلاثة؟ أسألهما وأتلفت، ولا أرى أحدًا بصحبتهما. - في الخارج تحت حراسة زميلين من عساكر السجون. يقول أحد الشرطيين، ويرفع صوته مناديًا: - أحضر السجناء يا دنقا. دخل عسكريا السجون بزي آخر لا يشبه زي الشرطة العادي، ويبدو من قماش أقل شأنا وتكلفة، وكانا يجران ثلاثة سجناء مربوطين إلى بعضهم بسلسلة واحدة من حديد، وبدأوا يتأملونهم كما يتأملون لوحات فنية في معرض. لا بد أنني ارتبكت أو جننت في تلك اللحظة؛ وأسرعت إلى أحد السجناء، بذل عساكر الشرطة والسجون معًا جهدا مضاعفا حتى أمسكوا بي، وأعادوني إلى مقعدي، وسحب المرضى المتجمهرون عيونهم من السجناء، وأسمع بعضهم يردد: لا حول ولا قوة إلا بالله. ماذا حدث ؟ يسألني أحد العسكريين، ويخرج من جيبه منديلا أبيض متسخا، يمسح به العرق عن وجهه. هذا الرجل هو المحتال (إدريس علي) الذي يبحثون عنه منذ زمن طويل، بعد أن احتال عليّ وعلى غيري من الناس، متى قبض عليه؟ ولماذا لم يخبرني أحد؟ كان المحتال في تلك اللحظة يقف جامدا وسط زملائه، شعره المنكوش تبعثر قليلًا بفعل إمسا اكي به وشده، يرتدي زي ا المساجين المكون من قميص أزرق وسروال قصير أزرق أيضًا، وذلك الحذاء من ماركة (باتا)، والمتناسل الخيوط الذي رأيته على قدميه من قبل، ومن جيب صغير أعلى قميصه، كان يطل قلم زينب واضحًا. ما اسمه يادنقا ؟ ينبري عسكري السجون الذي اسمه دنقا، بالرد موضحا: اسمه محمود حامد ومدان بجريمة الاحتيال على عدد من تجار الماشية حين باعهم أراضي وهمية في حي مايو الشعبي مقابل ماشيتهم، لا بد أنك شبهته على شخص آخر جنابك. إنه إدريس علي) نفسه الذي احتال علي وتتابع احتياله على معارفي وأقاربي منذ حوالي عام. منذ متى أدين وسجن ؟ منذ خمس سنوات جنابك. يضربه على خده بعنف، كان الذي يقف أمامي هو إدريس علي بلا أدنى شك، سيتعرفه عز الدين، وسيأتي الخفيف التائب ليدلي بشهادته، ويمكن أن أجرّ الهندي برد شاندرا) إلى القضية أيضًا غير عابئ بمشاكله مع الشرطة. كان عمل العيادة قد توقف تماما، الطبيبة فرت من الموقف وأنا ما أزال أبحلق في المحتال، كنت طالبا جامعياً بلا شك، لكن هل يكون ثمة تطابق لهذه الدرجة؟ عادت الزميلة، برفقة طبيب آخر يحل مكاني، وخرجت إلى حوش المستشفى أتنشق الهواء، وأراقب بوابة العيادة، بعد أن فحصوا ووصف لهم الدواء، ويمضون بهم إلى عربة حكومية كانت تقف دائرة المحرك أمام الباب. بعد أن جلست أمامه ألهث انفعالا، والتي عثر على بعض أجزائها مدون في عدد من المحاضر السابقة، وهو يتأملني: لا فائدة ترجى يا دكتور. ما دام الرجل في السجن منذ خمس سنوات، فهو في السجن منذ خمس سنوات. ولا أي شيء يثبت أنه (إدريس علي). هذا الرجل بالذات حوكم، ولا يخضع لأي قانون من قوانين الكفالة أو الإفراج التي تمنح للسجناء الموقوفين مؤقتًا على ذمة قضايا. سندبر لك طوابير أخرى من المشتبهين، لعلك تتعرف إدريسك هذا.