وقلة فقه وعمى بصيرة وعدم نظر في مآلات الأمور وعواقبها. وحينما يتفكر المرء في هذه العمليات الإرهابية الظالمة، وبخاصة ما يقع منها في بعض بلاد الإسلام على أيدي فئة شاذة من أبناء المسلمين يتساءل بحرقة وألم: بأي عقل يفكر هؤلاء؟ وعلى أي منطق يستندون؟ وبأي حجة يتشبثون؟ وإلى أية شريعة يحتكمون؟ وأية مصلحة يستهدفون؟ وبأي دليل يتذرعون؟ حين يغدرون بالعهود، ويصدون عن سبيل الله وهم يزعمون نصرة دين الله، وتفكيك صفوفها، وإغراء أعدائها بها، وتسليطهم عليها وعلى استلاب خيراتها. والعجب كل العجب أن تحدث هذه العمليات الإجرامية في أفضل البلاد، في بلاد الحرمين الشريفين، وأعجب من هذا أن الذي تولى كبر هذه الجرائم ونفذها هم من أبناء هذا البلد وأهله، وتفوق مقرراتها ومناهجها، وتحترم الدماء المعصومة، والرحمة بالإنسان وسائر المخلوقات. وما دامت هذه الأعمال الإرهابية الظالمة نتاج فكر منحرف، وذلك بالعلم الشرعي الصحيح المؤسس على الكتاب والسنة وفهم سلف الأمة، والضمانة الحقيقية لمنع الإرهاب والعدوان، وكما أنه يمنع من الاعتداء ابتداءً فإنه من أعظم الأسباب المعينة على علاج هذه الظاهرة الخطيرة، وحمل من تلبس بشيء من ذلك على التوبة والإنابة، ولهذا حرم الله قتل النفس بغير حق، وحرم على المكلف إلقاء نفسه في التهلكة، وشرع مدافعة الصائل على النفس ولو بقتله، والاعتداء على الحياة الإنسانية قد يكون بقتل الإنسان لنفسه، وسأبين حكم هذين الأمرين من خلال هاتين المسألتين: المسألة الأولى: تحريم اعتداء الإنسان على نفسه وإنما هي ملك لخالقها وموجدها عز وجل. ولم يقم بمايجب لها؟ ولهذا فلا يجوز للإنسان أن يقتل نفسه، ولا أن يغرر بها في غير مصلحة شرعية، ولا أن يتصرف بشيء من أجزائها إلا بما يعود عليها بالمصلحة، وليس له أن يُضر بنفسه بحجة أنه يتصرف فيما يخصه، فإن اعتداءه على نفسه كاعتدائه على غيره عند الله تعالى. قال الله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا {4/29} وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا} [النساء: 29]. سواء كان ذلك بتعمد قتلها مباشرة، أو بفعل الأخطار المفضية إلى التلف والهلاك. ثم توعّد من يقتل نفسه أو نفس غيره بغير حق بأن يصليه نار جهنم وساءت مصيراً. قال القرطبي: «أجمع أهل التأويل على أن المراد بهذه الآية، ثم لفظها يتناول أن يقتل الرجل نفسه بقصدٍ منه للقتل: في الحرص على الدنيا وطلب المال، بأن يحمل نفسه على الغرر المؤدّي إلى التلف. وقد احتج بهذه الآية عمرو بن العاص رضي الله عنه حين أجنب ثم تيمم، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم، وقال تعالى: { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ }[البقرة: 195]. 2 قال القاسمي في تفسيره 5/1203: «فإن كل المؤمنين كنفس واحدة. للمبالغة في الزجر عن قتلهم، بتصويره بصورة ما لا يكاد يفعله عاقل». والمراد بالأيدي: الأنفس، بناء على أن أكثر أفعال النفس بالأيدي. والتهلكة: مصدر من هلك يهلك هلاكاً وهُلْكاً وتهلكة، قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: «والإلقاء باليد إلى التهلكة، يرجع إلى أمرين: لترْك ماأمر به العبد، إذا كان تركه موجباً أو مقارباً لهلاك البدن أو الروح. وفعل ما هو سبب موصل إلى تلف النفس أو الروح. ومن ذلك: تغرير الإنسان بنفسه في مقاتلة، أو يصعد شجراً أو بنياناً خطراً، وجاءت السنة النبوية مؤكدةً لما في القرآن، ومنذرةً بالوعيد الشديد، والعذاب الأليم لمن قتل نفسه. ففي الصحيحين عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كان فيمن كان قبلكم رجل به جُرح، فما رقأ الدمُ حتى مات. قال الله تعالى: بادرني عبدي بنفسه، وفي الصحيحين أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قتل نفسه بحديدة، فحديدته في يده يتوجّأُ10 بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً. فهو يتحساه11 في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً. فهو يتردى في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً»13، وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً». منها: أنه محمول على من فعل ذلك مستحلاً له بلا تأويل، فإنه يصير باستحلاله لما حرمه الله كافراً، والكافر مخلد في النار بلا ريب. ولكن هذا كما يقول أبو عبيد القاسم بن سلام: «من أفظع ما تُؤوِّل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فأخبر أنهم يخرجون من النار بتوحيدهم، وقد رجّح ابن حجر هذا الجواب الأخير، أن المعنى المذكور جزاء من فعل ذلك، وقال النووي: «وأما قوله تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} فالصواب فى معناها: أن جزاءه جهنم، فإن قتل عمداً مستحلاً له بغير حق ولاتأويل فهو كافر مرتد يخلد به فى جهنم بالإجماع، ولكن قد يعفى عنه فلا يدخل النار أصلاً، ثم يخرج معهم إلى الجنة ولا يخلد فى النار. فهذا هو الصواب فى معنى الآية، ويدل لذلك قوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء}[النساء: 48]، وإن شاء عذبه ثم يكون مآله إلى الجنة. فإن النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن بايعهم على ترك القتل والزنا وغيرهما قال: «فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب شيئاً من ذلك فعوقب به فهو كفارة له، ويؤيده قصة الذي قتل تسعا وتسعين نفساً ثم أكمل المائة، وهذا ما رجحه ابن القيم أيضاً، فإن الحكم إنما يتم بوجود مقتضيه وانتفاء مانعه. وقد قام الدليل على ذكر الموانع، فبعضها بالإجماع، فالتوبة مانع بالإجماع، والتوحيد مانع بالنصوص المتواترة التي لا مدفع لها، وإقامة الحدود في الدنيا مانع بالنص، ولا سبيل إلى تعطيل هذه النصوص، وقد روى مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: « لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، هاجر إليه الطفيل بن عمرو، فقطع بها براجمه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم ولِيَديه فاغفر». وهذا الحديث يدل على تحريم قتل الإنسان نفسه، كما يدل على أن من قتل نفسه غير مستحل لذلك، ولذلك بوّب عليه النووي بقوله: «باب الدليل على أن قاتل نفسه لا يكفر»، ثم قال في شرح الحديث: «فيه حجة لقاعدة عظيمة لأهل السنة: أن من قتل نفسه، وهذا الحديث شرح للأحاديث التي قبله الموهم ظاهرها تخليد قاتل النفس وغيره من أصحاب الكبائر في النار. وكما لا يجوز إتلاف النفس بالكلية، إلا لمصلحة تربو على مفسدة الإيلام والقطع. فإن احتاج لقطع عضو من بدنه، أو جلب أعلى المصلحتين بتفويت أدناهما. وإذا كان هذا الوعيد الشديد في حق من قتل نفسه دون أن يؤذي غيره، فكيف يكون الحال فيمن أزهق نفسه في تفجير انتحاري لكي يقتل المعصومين من المسلمين وغيرهم، ويزعزع الأمن والاستقرار في بلاد المسلمين، المسألة الثانية: تحريم اعتداء الإنسان على غيره إذا كان اعتداء الإنسان على نفسه بتلك المثابة من التحريم والتغليظ في العقوبة، فإن اعتداءه على غيره أشد تحريماً، قال الله تعالى: { وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ }[الإسراء: 33]. مؤمنةً كانت أو معاهدةً إلا بالحق الذي يوجب قتلها. وقال تعالى: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا }[النساء: 92]، وقال تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}[النساء: 93]. فأي وعيد أعظم من هذا الوعيد؟! إنه لوعيد تقشعر منه جلود المؤمنين، وتنخلع من هوله قلوبهم، ولا يفهم من التنصيص على المؤمن في الآيتين السابقتين جواز قتل المعصومين من غير المؤمنين، ولكنه نَصَّ على المؤمن ليبين أن قتله أعظم وأشنع، ولقد قرن الله القتل بغير حق بالشرك بالله في غير ما آية في كتابه، كما في قوله تعالى: {وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا {25/68} يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا}[الفرقان: 68، وقوله: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ}[الأنعام: 151]. قال ابن حزم: «لا ذنب عند الله عز وجل بعد الشرك، والثاني: قتل مؤمن أو مؤمنة عمداً بغير حق. وقال الشافعي: «ولا شيء أعظم منه [ يعني القتل بغير حق ] بعد الشرك». فقال تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}[المائدة: 32]. ففي هذه الآية: تغليظ أمر القتل، حتى لا يضار فيها أحد بغير حق. وقد اختلف المفسرون في المراد بهذا التشبيه: فقال ابن عباس: المعنى: من قتل نفساً واحدة، وقال الحسن البصري: فكأنما قتل الناس جميعاً في الوزر، وقال مجاهد: المعنى: أن الذي يقتل النفس المؤمنة متعمداً، جعل الله جزاءه جهنم وغضب عليه ولعنه وأعدّ له عذاباً عظيماً، لم يزد على مثل ذلك العذاب. أي: عفا عمن وجب له قتله. فالمؤمنون كلهم خصماؤه، أي: يجب على الكل شكره، قال القرطبي: «وعلى الجملة، وقال الشوكاني: «والمراد بالتشبيه في جانب القتل: تهويل أمر القتل، وفي جانب الإحياء: الترغيب إلى العفو عن الجناة، وقال ابن القيم: «وقد أشكل فهم هذا على كثير من الناس، أعظم عند الله من إثم قاتل نفس واحدة. واللفظ يدل على هذا. ولا يلزم من تشبيه الشيء بالشيء أخذه بجميع أحكامه. فإن قيل ففي أي شيء وقع التشبيه بين قاتل نفس واحدة، وقاتل الناس جميعاً؟ قيل: في وجوه متعددة: أحدها: أن كلاً منهما عاصٍ لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، واستحقاق الخلود في نار جهنم، وإعداده له عذاباً عظيماً. وإنما التفاوت في دركات العذاب، فليس إثم من قتل نبياً أو إماماً عادلاً أو عالماً يأمر الناس بالقسط، كإثم من قتل من لا مزية له من آحاد الناس. لاستحقاق إزهاق النفس [أي: القتل قصاصاً]. الثالث: أنهما سواء في الجرأة على سفك الدم الحرام، فإن من قتل نفساً بغير استحقاق، فإنه يجترئ على قتل كل من ظفر به، فهو معادٍ للنوع الإنساني. ومنها: أنه يسمى قاتلاً أو فاسقاً أو ظالماً أوعاصياً بقتله واحداً، كما يسمى كذلك بقتله الناس جميعاً. ومنها: أن الله سبحانه جعل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتواصلهم كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر. فإذا أتلف القاتل من هذا الجسد عضواً، فكأنما أتلف سائر الجسد، فكأنما آذى جميع المؤمنين، فإن الله يدافع عن الناس بالمؤمنين الذين بينهم، تحريم القتل وحرمة الدماء وأما الأحاديث في تحريم القتل وتبشيع أمره، 1ـ حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء». ففي هذا الحديث تغليظ أمر الدماء، قال ابن حجر: «في الحديث عظم أمر الدم، فإن البداءة إنما تكون بالأهم، والذنب يعظم بحسب عظم المفسدة وتفويت المصلحة. 2ـ حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لن يزال المؤمن في فُسْحةٍ من دينه مالم يُصب دماً حراماً». ولا تقوم أجور أعماله الصالحة بإثم ظلمه، بسبب الوعيد على من قتل مؤمناً متعمداً بغير حق. نقل ابن حجر عن ابن العربي قوله: «الفسحة في الدين: سعة الأعمال الصالحة، وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: «إن من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها سفك الدم الحرام بغير حله» 3ـ حديث البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لزوالُ الدنيا أهونُ على الله من قتْل مؤمنٍ بغير حق». وفي هذا الحديث تغليظ أمر القتل وتهويل شأنه. 4ـ قوله صلى الله عليه وسلم: «كلّ ذنب عسى الله أن يغفره، إلا الرجل يقتل المؤمن متعمداً، 5ـ حديث المقداد بن عمرو الكندي رضي الله عنه، وكان ممن شهد بدراً مع النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يا رسول الله! أرأيت إن لقيت كافراً فاقتتلنا فضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها، أأقتله بعد أن قالها؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقتله. قال: يا رسول الله! فإنه قطع إحدى يدي ثم قال ذلك بعدما قطعها. فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله، وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال». ومعنى قوله: (وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته» أن دمك مباح بحق القصاص، لأنك قتلت مسلماً معصوماً ظلماً وعدواناً كما كان دمه مباحاً حين كان كافراً محارباً للمسلمين، وليس المراد إلحاقه به في الكفر، ومن القصص المشهورة التي تدل على شناعة أمر القتل وسوء عاقبته: قصة أسامة بن زيد رضي الله عنهما، قال: فصبحنا القوم فهزمناهم، فكف عنه الأنصاري فطعنته برمحي حتى قتلته. فلما قدمنا بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لي: يا أسامة أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟ قلت: يا رسول الله إنما كان متعوذاً. قال: أقتلته بعد ما قال لا إلا الله؟ فما زال يكررها علي حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم». فهذا الرجل كان كافراً يقاتل المسلمين، ولما أيقن أنه مقتول أسلم في الظاهر إسلاماً فيه شبهة بينة، ومع ذلك غلَّظ النبي صلى الله عليه وسلم في قتله تغليظاً شديداً، حتى تمنى أسامة أنه فقد حسناته السالفة وسابقته في الدين وأنه سلم من مغبة قتله، ولم يكتف النبي صلى الله عليه وسلم بما ذكر في تعظيم الدماء، بمقارنتها بما أجمع المسلمون قاطبة على إجلاله وتعظيمه، حين خطب الناس يوم النحر بمنىً في حجة الوداع. ففي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: «ألا أي شهر تعلمونه أعظم حُرمة؟ قالوا: ألا شهرنا هذا. قال: ألا أي بلد تعلمونه أعظم حرمة؟ قالوا: ألا بلدنا هذا. قال: ألا أي يوم تعلمونه أعظم حرمة؟ قالوا: ألا يومنا هذا. بل لقد دلت السنة النبوية على أن التعدي على الحيوان بإزهاق روحه ظلماً وعدواناً، جريمة يستحق فاعلها دخول النار. ففي الصحيحين عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «دخلت امرأة النار في هرّة ربطتها، وفي رواية لهما: «عذّبت امرأة في هرة، فإذا كانت هذه عقوبة قتل الحيوان بغير حق، فكيف بقتل الآدمي المعصوم، تحريم دماء المعصومين ولو كانت كافرة تشمل جميع المعصومين من المؤمنين والكافرين، فإنما هو لعظم حقه وحرمته، ولا تدل بحال على إباحة قتل الكافر المعصوم بغير حق. ويؤكد ذلك آيات وأحاديث كثيرة تدل على تحريم قتل الكفار غير المحاربين من الذميين والمعاهدين والمستأمنين، 1ـ قول الله عز وجل: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ] إلى قوله: { وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً}[النساء: 92]. فبين عز وجل عصمة دم الكافر المعاهد، وأن قتله خطأ يوجب الدية والكفارة المغلظة كوجوبهما في قتل المؤمن خطأ. قال الفقهاء: وتجب الدية والكفارة بقتل الذمي والمستأمن ومن بيننا وبينهم هدنة لقوله تعالى: {وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً}. وقال ابن قدامة: «والأصل في وجوب الدية والكفارة قول الله تعالى: { وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ }[النساء: 92]، وسواء كان المقتول مسلماً أو كافراً له عهد، لقول الله تعالى: { وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً }[النساء: 92]» 2ـ من الأدلة الصريحة على تحريم قتل النفوس المعصومة ولو كانت كافرة، لم يكن يريد قتله، قال الله تعالى:{ وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ {28/15} قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ {28/16} قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ {28/17} فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ {28/18} فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ}[القصص: 15ـ19] وفعلة بشعة من وجوه عديدة: مبين في عداوته له. واعترافه بخطيئته، واعتذاره إلى ربه:{ قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي }، معترفاً بذنبه، حتى إنه حين أرسله الله تعالى إلى فرعون وقومه بعد سنين قال: { وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ } [الشعراء: 14]، كما ثبت ذلك في حديث الشفاعة المشهور. 62 قال القرطبي: «ثم لم يزل موسى عليه السلام يعدد ذلك على نفسه مع علمه بأنه قد غفر له، حتى إنه في القيامة يقول: إني قتلت نفساً لم أومر بقتلها. وإنما عدده على نفسه ذنباً وقال ظلمت نفسي فاغفر لي، من أجل أنه لا ينبغي لنبي أن يقتل حتى يؤمر، وأيضاً فإن الأنبياء يشفقون مما لا يشفق منه غيرهم» فسأل ربه أن يتجاوز عنه، ويستر عليه: { قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ }. الرابع: أنه عدَّ فعله ذلك جرماً، وعاهد ربه ألا يكون معيناً لمجرم على جرمه: { قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ }. الخامس: أن الذي يقتل النفوس بغير حق فهو من الجبارين الظالمين، كما قال ذلك الإسرائيلي الذي ظن خطأ أن موسى سيقتله: { أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ }، وقد أقره الله تعالى على ما ذكر من أن القتل بغير حق هو فعل الجبابرة والطغاة الذين لا يخافون الله. بل هو من الظالمين المفسدين وإن زعم أنه من الصالحين المصلحين، كما قال الله تعالى على لسان ذلك الإسرائيلي مقراً له: { إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ }. وإذا كان هذا هو ما حصل لكليم الله موسى عليه الصلاة والسلام في قتل خطأ لكافر من قوم فرعون الذين كانوا يستضعفون بني إسرائيل ويذبحون أبناءهم ويستحيون نسائهم، فكيف بمن يترصد لكافر معاهد، أو ليعمل فيها طبيباً أو مهندساً أو خبيراً في مؤسسة حكومية أو أهلية، ويتباهى بذلك ويزعم أنه يفعل ذلك نصرة للدين، وأعظم باب لتشويه صورة الإسلام، والتحريض على قتل المسلمين وإيذائهم في كل مكان، وبخاصة في بلاد الأقليات المسلمة التي تعيش بين ظهراني تلك الأمم الكافرة؟! 3ـ عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها لتوجد من مسيرة أربعين عاماً». وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين خريفاً» 5ـ عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قتل معاهداً في غير كنهه حرم الله عليه الجنة» وفي رواية للنسائي: «من قتل نفساً معاهدة بغير حلها حرم الله عليه الجنة أن يشم ريحها». قال العلامة الشوكاني: «المعاهد: هو الرجل من أهل دار الحرب يدخل إلى دار الإسلام بأمان، ورائحة الجنة: نسيمها الطيب. لأنه إذا لم يشم نسيمها وهو يوجد من مسيرة أربعين عاماً لم يدخلها. وقوله: «فقد أخفر ذمة الله» بالخاء والفاء والراء أي: نقض عهده وغدر. والحديثان اشتملا على تشديد الوعيد على قاتل المعاهد، وتحريم الجنة عليه، مع أنه قد وقع الخلاف بين أهل العلم في قاتل المسلم هل يخلد فيها أم يخرج عنها؟» ووردت نصوص كثيرة في الكتاب والسنة تنهى عن الغدر، وإذا كان هذا الوعيد الشديد في قتل آحاد المعاهدين والذميين والمستأمنين، فكيف بنسف بيوتهم وعماراتهم، وهدمها على رؤوسهم، وقتل من فيها من النساء والصبيان؟ مع أن قتل هؤلاء من الكفار المحاربين حرام لا يجوز بإجماع العلماء إلا لضرورة71، ومظلمة من أعظم المظالم؟! مع ما فيها من تشويه صورة الإسلام والمسلمين، والصد عن سبيل الله القويم،