وفيما يتعلق بمهمة إعادة توزيع المياه بصورة عادلة في العين فقد استغرق الأمر من الشيخ زايد نحو عقدين لتحقيق كل ما يطمح إليه من أجل شعبه ؛ وقد بدأ بتقديم القدوة الحسنة حين تنازل عن مطالبته بحقه في الماء، وأقنع المقربين منه لاحقاً بالسير على خطاه والاقتداء بما فعل، وعندما لم تستجب فئة قليلة لرغبته تلك لمح إلى الضرر الذي قد يلحق بهم إذا لم يستجيبوا لطلبه ، ولم يشكك أحد من المقربين منه في العين في قدرته على اتخاذ قرارات حازمة ، بدليل أنه عندما كان يحكم في المنازعات لم يتوان في إصدار الأحكام الصارمة عند الضرورة، غير أنه كان يسعى قبل ذلك إلى كسب ود الآخرين وضمهم إلى صفه . وقد برهن أسلوب حياته على ثقته في شعبه ، حيث كان يتجول بينهم على صهوة فرس أو على ظهر جمل ، وفي مرحلة لاحقة في سيارة تنتقل بين أنحاء العين . وكما أشار جوليان ووكر عندما كان يعمل في مطلع شبابه ضابطاً سياسياً بريطانياً في الإمارات المتصالحة : كان كبار السن من البدو وسكان القرى بملابسهم البالية، ولكن بطلعتهم المليئة بعزة النفس والاستقلالية ، يأتون إليه عندما تقف سيارة اللاندروفر التي يستقلها أو فيm: استراحة المجلس المشيدة من سعف النخيل في المساء. يعرضون عليه الخلافات القائمة بينهم حول الإبل ، أو المصاعب التي يواجهونها في الحصول على الماء، ويطلبون مساعدته في حلها . وكان الشيخ زايد يصغي إلى كل حالة ويناقش بعض الحالات أحياناً مع الشيوخ الموجودين ، ثم يصدر قراراً يتم تسجيله - إذا دعت الحاجة - على ورقة مختومة بخاتمه على ظهرها . ليست هناك مظاهر دالة على العظمة المعروفة عن الحكام في المشرق، بل ترى الكياسة والتواضع والوقار ، وقد تعزز هذا المشهد بالحياء البادي على ذلك الرجل الفقير الذي قطع حديثنا وهو يطلب المساعدة من شيخه المبادر إلى المساعدة دوماً . ونحن جلوس حول النار التي توقد في المساء نحتسي الشاي، بينما الرجال من حولنا يتجاذبون أطراف الحديث بدأت حينها أتفهم الأسباب التي جعلت الشيخ زايد يحظى بهذا القدر من الاحترام والتقدير ، ليس بين أتباعه فقط ولكن أيضاً في أوساط القبائل التي تعيش في المنطقة الواسعة حول واحة البريمي [العين]. إن كرمه وعدالته ينسجمان تماماً مع كبرياء العرب الذين يعيشون في المنطقة وطبيعتهم . 45 ونتيجة لذلك فإنه حتى القبائل المخالفة لبني ياس أضحت تكن تقديراً خاصاً للشيخ زايد، مما مكنه حينها من زيارة هذه القبائل التي رحبت به ترحيباً لا يلقاه أي من أفراد أسرته الحاكمة. فإنها لم تتوقف عند ذلك الحد، فمع نهاية الفترة التي قضاها في منصب ممثل الحاكم في العين كان الشيخ زايد قد أتاح لأهالي العين الحصول على خدمات تعليمية وصحية، كما بنى لهم سوقاً جديدة، وشيد طرقاً أفضل . ويروى عن الشيخ زايد أنه كان يرسم بعصاه أشكالاً في الرمل، ويقول : فلتشيد مدرسة هنا ومستشفى هنا . وذلك في الوقت الذي كانت فيه مثل هذه المرافق غير متوافرة في المنطقة بأسرها. وعندما أصبح حاكماً لإمارة أبوظبي عام 1966 تحولت أحلامه إلى حقيقة واقعة بفضل عزيمته وإصراره على تحسين مستوى معيشة شعبه . لقد أصبح أسلوب الشيخ زايد في الحكم نهجاً جديداً لم تعرفه إمارة أبوظبي من قبل، وكان الشيخ شخبوط ينعزل تدريجياً في قصر الحصن مقر الحاكم في أبوظبيm: 46 صيته وشهرته قد وأثناء وجود الشيخ زايد في العين كان إخوته يترددون عليه، غير أنهم لم يحظوا بما حظي به من محبة طبيعية وولاء صادق من رجال القبائل ، 45 بل إن وصلا إلى قبائل الربع الخالي قرب الساحل الجنوبي لشبه الجزيرة العربية . كنت أتطلع إلى لقائه ، لقد أحبوه بسبب بساطته وتصرفاته العفوية ومودته ، واحترموا فيه قوة شخصيته وحكمته وقوته الجسمانية . وكانوا يقولون عنه بإعجاب : زايد بدوي، خبير بالإبل، ويمتطيها مثلما يفعل أي واحد منا، ويجيد إطلاق النار، ويعرف كيف يقاتل . 47 لقد حل ويلفرد ثيسيجر ضيفاً على الشيخ زايد لمدة شهر، ورأى بعينيه يوماً بعد يوم كيف حقق الشيخ زايد لنفسه هذه السمعة بين القبائل، ليس بوصفه بدوياً فحسب " كواحد منا " كما كانوا يقولون، ولكن بوصفه زعيماً كسب ولاءهم واحترامهم المنقطع النظير . التطورات الإقليمية وتعاظم دور الشيخ زايد لعل أهم ما كان يملكه الشيخ زايد في صراعه الحاسم لتحقيق استقلالية أبوظبي وتعزيز مكانتها هو تقدير رجال القبائل وتأييدهم له وإعجابهم بشخصيته ، ذلك أن طبيعة النظام القبلي يمكن أن تكون سبباً لعدم الاستقرار في مرحلة مضطربة كتلك التي كانت تمر بها المنطقة . وكان الشيخ زايد يدرك أن الحياة الصحراوية لرجال القبائل بطبيعتها لا تتيح إلا فرصة للعيش في حدود الكفاف في ظل موارد رزق محدودة، وأن من السهل عليهم أن يعودوا إلى شن الغارات وسلب الغنائم لسد احتياجاتهم ؛ لذا كان من المهم أن تتعاون حكومات المنطقة معاً في السيطرة على القبائل. وتعود جذور هذا النزاع إلى خلاف حدودي بسیط بدأ قبل أن يتولى الشيخ زايد منصبه في العين ، وما لبث أن تحول إلى نزاع موسع بين القبائل البدوية المتحالفة في الإمارتين ، وسرعان ما تبين بعد ذلك أن أياً من حاكمي قام الشيخ زايد بدور رجل السلام في هذا الصراع الطويل، غير أنه كان يدرك في قرارة نفسه أن المشكلة الأساسية هي إحساس رجال القبائل بعدم الأمن، وعندما رفض أخوه الشيخ شخبوط أن يعوضهم عما فقدوه وهم يحاربون في صفه، لم يكن أمامهم من خيار سوى العودة إلى شن الغارات مرة أخرى ، ومن هنا جاء اقتناع الشيخ زايد الراسخ بضرورة تحسين ظروف الحياة الصعبة في الصحراء. وخلقت الأحداث المؤسفة التي وقعت خلال الفترة 1945 - 1948 لدى الشيخ زايد تصميماً مطلقاً على أن تحل الإمارتان الجارتان، أبوظبي ودبي ، خلافاتهما بشكل ودي، وألا يسمح للنزاعات القبلية بأن تعكر صفو السلم والاستقرار في الداخل مرة أخرى . ولتحقيق غايته في حياة أكثر أمناً وازدهاراً لشعبه بدأ الشيخ زايد منذ أن أصبح حاكماً لأبوظبي في تغيير الظروف القاسية عبر عملية تنمية واسعة هيأت سبل العيش والاستقرار للبدو الرحل، ومن ثم أصبح لهم دور في الحفاظ على المجتمع الذي ينتمون إليه . 52 لقد حظي الشيخ زايد باحترام القبائل حتى في الحالات التي اضطر فيها إلى اتخاذ إجراءات ضدها ،