لعلَّ من حِكمةِ العَليمِ الحَكيمِ: أنَّ ثَمَّةَ أخطاءً تُرتكَبُ، فتكونُ سببًا في الانتباهِ إلى المبادئِ والأُصولِ كلَّما ابتعَدَ النَّاسُ عنها، أو خفَتَ ذِكرُها بينَهم. وكم من مسائلَ أُثيرَتْ على خلافِ الأُصول والمبادئِ، وتَحريكِ حالةِ التبَلُّدِ التي قد تُصيبُ الحَراكَ الفِكريِّ، الذي يُنتَظَرُ منه الإصلاحُ والتصحيحُ، لكنَّهم قلَّةٌ في جانبِ ما يُحقِّقُه الانتباهُ للأُصولِ وحمايتُها من نجاةٍ واسعةٍ، يقولُ جوستاف لوبون: "إنَّ الأخطاءَ التي تُظَنُّ مِن الحقائقِ -تَلعَبُ في دفعِ عَجلةِ التاريخ دَوْرًا أكبَرَ منَ الدوْرِ الذي تَلعَبُه الحقائقُ ذاتُها"(2). غايةُ ما توصَفُ به أنَّها: أفكارٌ وحديثُ نَفْسٍ عارضٌ، وقد يَصحَبُه -في أحسَنِ الأحوالِ- استدلالٌ لا يَخْلو من سَطحيَّةٍ، تسوقُ مَن يَنسَاقُ لها بَعيدًا عنِ الأُصولِ والثوابِتِ، ومن ثَمَّ تَقذِفُ أمامَه شُبهةً لتُوهِمَه أنَّها قدَّمتْ له شيئًا ذا بالٍ! والشُّبُهاتُ التي تَنطَلِقُ ممَّن لديه ثقافةٌ إسلاميَّةٌ، أو أثَرٍ. ومن هُنا يَنبَغي التعامُلُ معَها بمنهجِ التعامُلِ معَ الشبُهاتِ، طُرِحَتْ في العالَمِ الإسلاميِّ بِضعةُ أفكارٍ، زُعِمَ أنَّها منَ الإسلامِ، وما لا أُحْصي مِن المراجِعِ، والمقالاتِ. والأنظمةِ الدستوريَّةِ، وهذه الجُرثومةُ عَيْنُها هي التي وصَفَها (شيخُ الإسلامِ) مصطفى صبري -رحمَه اللهُ- بالتطفُّلِ للأُممِ، الذي يورِثُ الوَهْنَ في العَقيدةِ! غيرَ أنَّ الذي يَعْنينا منها هنا، أَعْني: مَعْنى السيادةِ. فما مَعْنى السيادةِ؟ وما الموقِفُ الشرعيُّ من مَعْناها؟ وقبلَ الجوابِ على هذا السؤالِ يَنْبَغي -أيضًا- أنْ نُفرِّقَ بينَ مُصطلَحَيْنِ دارجَيْنِ(4): الأوَّلُ: سيادةُ الدولةِ. والثاني: السيادةُ في الدولةِ. بحيث تكونُ آمِرةً على الأفرادِ والجماعاتِ؛ وإنِ التزَمَتِ المواثيقَ الدوليَّةَ فبالتزامِها -وهذا ظاهرٌ-؛ فلكلِّ دولةٍ حُريَّةٌ في ممارسةِ سُلُطاتِها وعَلاقاتِها. وليست هذه محلَّ الحديثِ هُنا. وأمَّا السيادةُ في الدولةِ: فهي التي تَعْنينا، وفي توضيحِه لمَعْنى السيادةِ فرَّقَ بودان بينَ السيِّدِ (صاحبِ السيادةِ)، "فالسيِّدُ أو صاحبُ السيادةِ، أمَّا الحاكمُ فسُلطتُه مُؤقَّتةٌ؛ ومن خَصائصِ السيادةِ لديه أنَّها مُطلَقةٌ، لا تخضَعُ للقانونِ، دونَ موافقةِ الرَّعايا(7). ومن خَصائصِها أنَّه لا يُمكِنُ أنْ يُفرَضَ عليها أيُّ إرادةٍ من قِبَلِ إرادةٍ أُخرى(8). عبد الحميد حيث أشارَ إلى أنَّ السيادةَ هي: "السُّلطةُ العُليا التي لا نَعرِفُ فيما تُنظِّمُ من عَلاقاتٍ سُلطةً عُليا أُخرى إلى جانبِها"(9). وممَّن بيَّنَ مفهومَ السيادةِ هوبز؛ إذ وضَّحَ أنَّها: "سُلطةٌ عُليا مُتميِّزةٌ وساميةٌ، ليست في القِمَّةِ بل فوقَ القِمَّةِ، فوقَ كلِّ الشعبِ، وتحكُمُ من مكانِها ذاك المجتمعَ السياسيَّ كلَّه؛ ولهذا السببِ فإنَّ هذه السُّلطةَ تكونُ مُطلَقةً، وبالتالي غيرَ محدودةٍ لا في مَداها ولا في مُدَّتها، وبدونِ مسؤوليَّةٍ أمامَ أيِّ إنسانٍ على الأرضِ"(10). لكنَّ بيانَه لها قد خَلا من بيانِ أساسٍ لهذه السيادةِ، ولا سيَّما مع استبعادِه للتأسيسِ على نظريَّةِ التفويضِ الإلهيِّ في المفهومِ الكَنَسيِّ، حينَ شارَكَ في استكمالِ النظريَّةِ وَفقَ فلسفتِه؛ وسيادةِ الشعبِ. هو مَعْنى السيادةِ، وحقيقتُه المؤثِّرةُ في الحُكمِ المتعلِّقِ بدِينِنا ونِظامِنا الإسلاميِّ، إذ هو المعيارُ والحَكَمُ على غيرِه، لا العكسُ؛ وهو لا يَرهَنُ الحُكمَ باللفظِ والنشأةِ على حِساب المَعْنى، وبعبارةٍ أُخرى: أنْ يُفرِّقَ بينَ البحثِ في نشأةِ المصطَلَحِ بوصفِه مُصطَلَحًا بلفظِه ومَعْناه، وهُنا لا بُدَّ من بيانِ الحُكمِ الشرعيِّ فيه. وعليه، وسُلطةَ الحُكومةِ بسُلُطاتِها، وممَّن عرَّفَها بلُغةِ الشرعيِّينَ الدكتور صلاح الصاوي؛ إذ قال: "السيادةُ هي: السُّلْطةُ العُليا المطلَقةُ التي تَفرَّدَتْ وَحْدَها بالحقِّ في إنشاءِ الخِطابِ المُلزِمِ المتعَلِّقِ بالحُكمِ على الأشياءِ والأفعالِ"(12). 3- وبناءً على هذا البيانِ لحقيقةِ السيادةِ الذي خُلاصتُه: وُجودُ سُلطةٍ عُليا مُطلَقةٍ لا تَحكُمُها سُلطةٌ أُخرى، فإنَّنا نَستطيعُ أنْ نقولَ بكلِّ ثِقةٍ ووضوحٍ: تلك حقيقةٌ لا توجَدُ في غيرِ نظامِ الإسلامِ، وهي ظاهرةٌ في نظامِ الحُكمِ الإسلاميِّ على وجهِ الخُصوصِ؛ فإنَّه محكومٌ باتِّفاقِ المسلِمينَ بسُلطةٍ عُليا مُطلَقةٍ حقًّا، تتمَثَّلُ في: كتابِ اللهِ تعالى، وسُنةِ رسولِه. يوضِّحُ ذلك الدكتور فتحي عبد الكريم في رسالتِه العِلميَّةِ (الدولةُ والسيادةُ في الفِقهِ الإسلاميِّ - دراسةٌ مُقارنةٌ) حينَ يُبيِّنُ ذلك من خلال ثلاثةِ محاورَ رئيسةٍ: الأوَّلُ: أنَّ السيادةَ ونظريَّاتِ السيادةِ، لم تستطِعْ تقديمَ أساسٍ قانونيٍّ أَعْلى للسُّلْطةِ، أو بعدَ انتقالِها إلى الأُمَّةِ أوِ الشعبِ؛ "غَيرُ قابلةٍ لأيِّ حَلٍّ بَشَريٍّ؛ لأنَّه لا يُمكِنُ لأحدٍ أنْ يُفسِّرَ منَ الناحيةِ الإنسانيَّةِ أنَّ إرادةً إنسانيَّةً يمكِنُ أنْ تَسموَ أو تَعلوَ على إرادةٍ إنسانيَّةٍ أُخْرى"(13). ولهذا يُقرِّرُ أُستاذٌ آخَرُ هو (لافاريير) أنَّه: "إذا كانت النيَّةُ تتَّجِهُ إلى تقديمِ السيادةِ على أنَّها حقٌّ في الأمرِ؛ فإنَّه لا يوجَدُ سِوى نظريَّةٍ واحدةٍ مَنطقيَّةٍ ومَقبولةٍ، تلك التي تُقرِّرُ أنَّ السُّلْطةَ السياسيَّةَ تَرجِعُ في مَصدرِها إلى اللهِ؛ وفي هذه الحالةِ إذا ما وُجِدَ في السيادةِ عُنصرٌ إلهيٌّ؛ لأنَّ هذه السيادةَ سوف تكونُ إعلانًا عن سُلْطةٍ تَعْلو سُلْطةَ البَشَرِ"(14). الثاني: أنَّ سُلْطةَ السيادةِ مُطلَقةٌ؛ وهذا يَعْني أنَّه لا يصِحُّ أنْ تَرِدَ عليها قيودٌ؛ لأنَّ ورودَ القُيودِ عليها يُخالِفُ جَوْهرَ النظريَّةِ، الذي يقولُ: "ولهذا السببِ وجَدْنا أحدَ كبارِ المفكِّرينَ (جورج سل) يُقرِّرُ بحقٍّ أنَّ نظريَّةَ السيادةِ غَيرُ مَفهومةٍ في ظلِّ شَخصيَّةِ الدولةِ القانونيَّةِ التي تَحْيا في ظلِّ نظامٍ قانونيٍّ؛ ويَرى (سل) أنَّ فكرةَ السيادةِ تُؤَدِّي إلى هَدمِ فِكرةِ الدولةِ القانونيَّةِ، ومبدأِ سيادةِ القانونِ. أمَّا طِبقًا للنظريَّةِ الإسلاميَّةِ، لأنَّ الأُمَّةَ كُلَّها لوِ اجتمَعَتْ لا تملِكُ أنْ تُغيِّرَ أو تُعَدِّلَ فيه، ولا يَستَطيعونَ الخروجَ عليها". الثالثُ: من حيث ضماناتُ تَقييدِ السُّلطةِ بالسيادةِ؛ فإنَّ "نظريَّةَ السيادةِ حسَبَ مَفهومِها الأَصليِّ الصحيحِ، ولا تَعرِفُه، لذلك فإنَّه يكونُ منَ المنطِقيِّ ألَّا تَعرِفَ هذه النظريَّةُ فِكرةَ الضماناتِ اللازمةِ لتَقييدِ السُّلْطةِ؛ ذلك أنَّ رسالةَ الإسلامِ لم تَكتَفِ بوضعِ نظامِ الحُكمِ المقيَّدِ؛ قُلتُ -كما ورَدَ في حديثِ عُبادةَ بنِ الصامِتِ رضِيَ اللهُ عنه-: (دَعانا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فبَايَعْناهُ؛ فكانَ فيما أخَذَ علينا، أنْ بايَعَنا على السمعِ والطاعةِ، وألَّا نُنازِعَ الأمرَ أهلَهُ. لن يَجدَ مُعاناةً في تحديدِ حقيقةِ السيادةِ العُليا في النظامِ الإسلاميِّ كُلِّه بما فيه النِّظامُ السِّياسيُّ، والحاكِميةِ، والشرعيةِ العُليا، والحُكْمِ بما أنزَلَ اللهُ؛ ونَحوِها مِنَ التعبيراتِ الـمَألوفةِ لَدَى الشرعيِّين والـمُتخصِّصينَ، 4- ومِن هنا فلا غرابةَ في اتِّفاقِ العُلماءِ والباحِثين الـمُعاصِرين -ولا سيَّما مَن لهم عِنايةٌ بالسياسةِ الشرعيةِ- على أنَّ السيادةَ العُليا في الإسلامِ لِلشريعةِ مُمثَّلةٌ في نُصوصِ القُرآنِ والسُّنَّةِ؛ فلا سيادةَ تَعلو سيادةَ الكِتابِ والسُّنَّةِ وهيمَنَتَهما على غَيرِهما مِنَ الكُتُبِ والشرائعِ السابقةِ {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: 48]، والحقيقةُ أنَّكَ عِندَما تُضطَّرُ لِتوضيحِ الواضحاتِ، وليس بالضرورةِ تَعدادُ أدلَّتِها النصيةِ وغَيرِها؛ لِكَثرَتِها(16)، بَعضُها لِلمُتقدِّمين، وبَعضُها لِلمُعاصِرين. وعُلمائِهم وعامَّتِهم؛ بل عامَّةٌ إلى الثَّقلَيْنِ، وأنَّها باقيةٌ دائمةٌ إلى يَومِ القيامةِ، وما سَنَّهُ لهم مِن فِعلِ الـمَأموراتِ، بل لو كان الأنبياءُ الـمُتقدِّمون قَبلَه أحياءً لَوَجَب عليهم مُتابَعتُه وطاعَتُه. بل ثَبَت أنَّ الـمَسيحَ عيسى ابنَ مَريمَ إذا نَزَلَ مِنَ السماءِ يَكونُ مُتَّبِعًا لِشريعةِ محمدِ بنِ عَبدِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ. فكيف بمَن دُونَهم، كموسى وعيسى؛ وإنِ اعتَقَدَ أنَّه غَيرُ واجِبٍ، وأنَّه مُخيَّرٌ فيه، وإنْ جَهِلَه وأخطَأَه، له حُكْمُ الـمُخطِئين"(18). وقال ابنُ أبي العِزِّ الحنفيُّ: ". أوِ استَهانَ به، بَعدَ تيَقُّنِه أنَّه حُكْمُ اللهِ، فهذا كُفرٌ أكبَرُ"(19). والشريعةُ أثَرٌ تَستَتبِعُه العَقيدةُ، ومِن ثَمَّ فلا وُجودَ لِلشريعةِ في الإسلامِ إلَّا بوُجودِ العَقيدةِ، كما لا ازدِهارَ لِلشريعةِ إلَّا في ظِلِّ العَقيدةِ؛ ذلك أنَّ الشريعةَ بدُونِ العَقيدةِ عُلُوٌّ ليس له أساسٌ؛ فهي لا تستَنِدُ إلى تلك القُوَّةِ الـمَعنويةِ، التي توحي باحتِرامِ الشريعةِ، على أنْ تَكونَ العَقيدةُ أصلًا يَدفَعُ إلى الشريعةِ، وقد كان هذا التعلُّقُ طَريقَ النجاةِ والفَوزِ بما أعَدَّ اللهُ لِلمُؤمِنين. وعليه فمَن آمَنَ بالعَقيدةِ، وألغى الشريعةَ، أو أخَذَ بالشريعةِ وأهدَرَ العَقيدةَ، لا يَكونُ مُسلِمًا عِندَ اللهِ، قَوْلُ الشَّيخِ يوسف القرضاوي: "هناك أشياءُ أطلَقَ عليها عُلماءُ أُمَّتِنا الكِبارُ اسمَ (الـمَعلوم مِنَ الدِّينِ بالضَّرورةِ)، ويَقصِدون بها الأُمورَ التي يَستَوي في العِلمِ بها الخاصُّ والعامُّ، وثُبوتِها بالتَّواتُرِ واليَقينِ التاريخيِّ. ووَحْدَتَها الفكريةَ والشُّعوريةَ والعلمية؛ وأعتَقِدُ أنَّ مِن هذه الأُمورِ أنَّ اللهَ تَعالى لم يُنزِّلْ أحكامَه في كِتابِه، لِلتَّبَرُّكِ بها، أو لِقِراءَتِها على الـمَوْتى! أو لِتعليقِها لافِتاتٍ تُزيَّنُ بها الجُدرانُ؛ وإنَّما أنزَلَها لتُتَّبعَ وتُنفَّذَ، وتَحكُمَ علاقاتِ الناسِ، وتَضبِطَ مَسيرةَ الحياةِ وَفْقَ أمرِ اللهِ ونَهيِه، وحُكْمِه وشَرْعِه. وكان يَكفي هذا القَدْرُ -عندَ مَن رَضيَ باللهِ رَبًّا، وبالإسلامِ دِينًا، وبالقُرآنِ مِنهاجًا- لِأنْ يَقولَ أمامَ حُكْمِ اللهِ ورَسولِه: سمِعْنا وأطَعْنا، والعَجيبُ أنَّ مَن يتأمَّلُ أُصولَ أدلَّةِ هذا الأصْلِ العَظيمِ يَجِدْها مُشبَّعةً بمعاني اللُّزوميةِ! فمَن يتدَبَّرْ قَوْلَ اللهِ عزَّ وجلَّ: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 49 - 50]، -على سَبيلِ المِثالِ- يَجِدْ ذلك فيه ظاهِرًا؛ الثاني: ألَّا تَكونَ أهواءُ الناسِ ورَغَباتُهم مانِعةً مِنَ الحُكْمِ به بأيِّ حالٍ مِنَ الأحوالِ [قُلتُ: لا في صورةِ انتخاباتٍ ولا استِفتاءٍ وتَخييرٍ ولا غَيرِه]؛ وذلك في قَولِه: {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة: 49]. الثالِثُ: التَّحذيرُ مِن عدمِ تَحكيمِ شَرعِ اللهِ في القَليلِ والكَثيرِ، يَقولُ سُبحانَه: {وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة: 49]. الرَّابِعُ: إنَّ التَّوَلِّي عن حُكْمِ اللهِ وعدمَ قَبولِ شَيءٍ منه، مُوجِبٌ لِلعقابِ الأليمِ؛ الخامِسُ: التَّحذيرُ مِنَ الاغتِرارِ بكَثرةِ الـمُعرِضين عن حُكْمِ اللهِ؛ يَقولُ اللهُ تَعالى {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} [المائدة: 49]. يَقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا} [المائدة: 50]. وهذه المعاني مَوجودةٌ في آياتٍ كثيرةٍ مِنَ القُرآنِ، بل هي لازِمةُ التَّطبيقِ، لا خِيارَ لِأحَدٍ في تطبيقِها؛ وحُكَّامَ الـمُسلِمين خاصَّةً، وقال تَعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام: 57]، ومَن تَرَكَ حُكْمَ اللهِ تَعالى وهو قادِرٌ على تَطبيقِه، وهذا ما سَبَق بيانُه في وُجوبِ تَحكيمِ الشَّريعةِ، وعدمِ الخُروجِ عنها، وقال الشيخ يوسف القرضاوي تَحتَ عُنوانِ: الثَّوابِتُ لا يتدَخَّلُ فيها التَّصويتُ: "إنَّ هناك أُمورًا لا تَدخُلُ مَجالَ التَّصويتِ، ولا تُعرَضُ لِأخذِ الأصواتِ عليها؛ فلا مَجالَ لِلتَّصويتِ في قَطعيِّاتِ الشَّرعِ، وأساسيَّاتِ الدِّينِ، لا يَشِذُّ عن ذلك واحِدٌ. فأهلُ السُّنَّةِ يَرَوْنَ أنَّ الإمامَ يَستَمدُّ سُلطَتَه مِنَ الأُمَّةِ، سواءٌ أكانَ الـمُختارون له هم أهلَ الحَلِّ والعَقْدِ، أو مِنَ الأُمَّةِ بمَجمُوعِها إذا تيَسَّرَ ذلك، وسُلطَتُه تُستَمَدُّ مِنَ الشعبِ، وهذا فَرْقٌ آخَرُ بيْنَ الديمقراطيةِ والإسلامِ؛ فالسِّيادةُ والسلطةُ في الحُكْمِ الديمقراطيِّ هي لِلشعبِ، بينَما السيادةُ في الإسلامِ لِلشَّرعِ، فالسيادةُ في دِينِ الإسلامِ لِشريعةِ الإسلامِ باتِّفاقِ أهلِ الإسلامِ؛ وما يَذكُرُه بَعضُهم مِن وُجودِ خِلافٍ، فهو خِلافٌ لَفظيٌّ ليس إلَّا؛ إذْ هناك مَن يَقولُ: السيادةُ لِلأُمَّةِ، لِأنَّه يَعودُ لِيؤكِّدَ أنَّ الأُمَّةَ مَحكومةٌ بالشريعةِ الإسلاميةِ مُمَثَّلةً في الكِتابِ والسُّنَّةِ. وسَببُ هذا الفَهْمِ: الخَلطُ بيْنَ مُصطَلحِ السيادةِ والسلطةِ؛ ولهذا فرَّقَ أهلُ الشأنِ بينَهما. وفي هذا يَقولُ الدكتور عبد الجليل محمد علي: "بالنظرةِ الـمُتعمِّقةِ في النظرياتِ السالِفةِ؛ لِلوقوفِ على ما اختَلفَتْ فيه وما اتَّفَقتْ عليه، نَجِدُ أنَّ الخِلافَ ما هو إلَّا خِلافٌ في الصياغةِ دُونَ الـمَضمونِ؛ أمَّا أصحابُ النظريةِ الثانيةِ فإنَّهم بَعدَ أنْ ذَكروا لنا أنَّ السيادةَ لِلأُمَّةِ، فإذا تجاوَزَتْه فقَدَتْ مَشروعيَّتَها. وهي سيادةُ التَّشريعِ المُنزَّلِ مِن عِندِ اللهِ. وبذلك لا يَكونُ هناك خِلافٌ في الحقيقةِ بيْنَ هذه النظرياتِ الـمُختلفةِ"(26). وواضحٌ أنَّ تَقييدَ سيادةِ الشعبِ يُخرِجُها عن مَعنى السيادةِ الأصليِّ الذي يَعني السلطةَ العُليا الـمُطلَقةَ التي لا يُقيِّدُها شيءٌ، أوِ التي لا توجدُ سُلطةٌ أُخرى إلى جانِبِها، كما يَقولُ دوجي. وجاء في كِتابِ السيادة وثبات الأحكامِ في النظريةِ السياسيةِ الإسلامية: "الإسلامُ جاء بقَواعدَ تُبيِّنُ السيادةَ لِلشرعِ، وأنَّ حقَّ السلطانِ لِلأُمَّةِ، ولقد خَفيَ هذا المَعنى على كَثيرٍ ممَّن نَسَب السيادةَ أو بَعضَها لِلأُمَّةِ، فجَعَلوهما أمرًا واحِدًا! مع اختلافِهما شَرعًا وعَقلًا"(27). وهذه السيادةُ لا يَخرِمُها ظُلمُ ظالِـمٍ، ولا استِبدادُ أحَدٍ باسمِ الشريعةِ؛ لا ما نَسَبه أهلُ الأهواءِ والظُّلمِ إلى شريعةِ اللهِ؛ ولذلك جاءتِ النُّصوصُ الصريحةُ في تَجريمِ الجَوْرِ، وتَحريمِ الظُّلمِ، ومِن ذلك الوَعيدُ لِبعضِ القُضاةِ مِن أهلِ الإسلامِ بالنارِ، لِتجاوُزِهم سيادةَ الشريعةِ، 5- ولمَّا كانت طَريقةُ أهلِ الإسلامِ في نظرِ الـمَسائلِ الـمُحدَثاتِ تَنطلِقُ مِن مَنهجِ الإسلامِ ذاتِه؛ وذلك مِن خلال: رَدِّ ومُحاكَمةِ كُلِّ مَسألةٍ إلى الكِتابِ والسُّنَّةِ وَفْقَ أُصولِ الاستِنباطِ الصحيحِ؛ فهو الإجماعُ الشرعيُّ الـمُعتَبَرُ؛ تَكونُ مَحلَّ مُناقشةٍ وتَدارُسٍ بيْنَ أهلِ العِلْمِ، لمّا كان ذلك كذلك، تمت مُحاكَمةُ الديمقراطياتِ الحَديثةِ، الـمُتفرِّعةِ عن نظريةِ سيادةِ الأُمَّةِ ثم نظريةِ سيادةِ الشعبِ؛ وبِناءً على رأيِ جُمهورِ فُقهاءِ العَصرِ في مَشروعيةِ التدرُّجِ في تَطبيقِ العَدلِ الإسلاميِّ (الشريعة الإسلامية)، تمت مُشاركةُ الحَركاتِ الإسلاميةِ بالدولِ العَلْمانيةِ في العَمَلِ السياسيِّ ببلادِهم، مُفيدين مِن آلياتِ الديمقراطيةِ فيها؛ إذْ لا خِيارَ مُستطاعًا لهم فيها إلَّا سُلوكَ هذه الطريقِ، التي تُسهِمُ في تَخفيفِ مُنكِرِ الحُكْمِ بغَيرِ ما أنزَلَ اللهُ شيئًا فشيئًا بالأدواتِ السِّلْميةِ الـمُمكنةِ. ولِلأسفِ إنَّ ثَمَّةَ مَن عَكَس العمليةَ في عالَمِنا العربيِّ والإسلاميِّ؛ فعمِلَ على ما يُؤدِّي إلى استخدامِ آلياتِ الديمقراطيةِ في ترسيخِ فَلسفتِها الـمُتَّفَقِ على بُطلانِها شَرعًا. على الإسلام ذاتِه، والتعامُلِ مع الشريعةِ كما لو كانت قوانينَ بشريةً مَدنيةً تَقبَلُ الاستِفتاءَ عليها بـ"نَعَمْ" أو "لا"! وقد بيَّنَ الشيخُ مصطفى صبري -رَحِمَه اللهُ- أنَّ ادِّعاءَ عدمِ لُزومِ الشريعةِ فَرعٌ عنِ القَولِ بمَبدأِ (فصل الدِّينِ عنِ السياسة) العَلْمانيِّ؛ ومعنى عدمِ لُزومِه لِلحُكومةِ: ألَّا يَكونَ له -أيْ لِلدِّينِ- سُلطةٌ عليها، ورِقابةٌ على أعمالِها"(29). وهو لا يَقِلُّ في الـمَعنى عن إعلانِ الحَربِ؛ لِتَمرُّدِها على مَتبوعِها، وخُروجِها عن طاعتِه"(30). 6- وقبلَ خِتامِ هذهِ الـمَقالةِ أذكُرُ ما دوَّنَه بحُرقةٍ أحَدُ شُهودِ الحِقبةِ التي أُثيرَتْ فيها شُبهةُ سيادةِ الأُمَّةِ، مُنتَقِدًا مَن يَنسِبون (مَبدأَ سيادةِ الأُمَّةِ) إلى الإسلامِ: لِظُروفٍ خاصَّةٍ بفَرنسا في ذلك الحينِ، وأنَّ هذه النظريةَ إنَّما كانت بمثابةِ سِلاحٍ مِن أسلحةِ الكِفاحِ ضِدَّ مَبدأِ (سيادةِ المَلِكِ) الذي كان سائِدًا في ذلك الزمانِ، وكان يَستَنِدُ إلى نظريةِ (الحَقِّ الإلهيِّ) [يَعني المَفهومَ الكَنَسيَّ] التي لم يَعُدْ لها في زمانِنا هذا مَكانٌ، اللَّهمَّ إلَّا في مَتحَفِ آثارِ تاريخِ المَذاهِبِ والنظرياتِ السياسيةِ. وما دَرَوْا أنَّ مَبدأَ سيادةِ الأُمَّةِ -كما قرَّرتْه الثورةُ الفَرنسيةُ في دساتيرِ الديمقراطياتِ الغربيةِ- لم تَعُدْ بنا حاجةٌ إليه في هذا العَصرِ؛ ونظريةِ الحَقِّ الإلهيِّ اللذَيْنِ مِن أجْلِ مُحارَبتِهما استَنبَط الفُقهاءُ الفَرنسيُّون مَبدأَ سيادةِ الأُمَّة. وأقوى سِنادٍ لِلاستِبدادِ"(31). ولارتِباطِ فكرةِ التقليدِ في (سيادةِ الأُمَّةِ) عندَ أولئك بالتقليد في (نظامِ الاقتراعِ العامِّ)، لِأنَّنا أخَذْنا بهذا النظامِ في بدايةِ عَهدِنا بالنظامِ النِّيابيِّ البرلمانيِّ -طِبقًا لِدُستورِ عام 1923م- حين كانت نِسبةُ الأُمِّيَّةِ لدينا في مِصرَ تَبلغُ نَحوَ 80% مِن عَددِ السُّكانِ، بينَما كانت إنجلترا -التي تُعدُّ مَهدَ النظامِ النِّيابيِّ البرلمانيِّ ومَوطِنَه الأوَّلَ، والتي سبقَتْنا في الأخْذِ به بعِدَّةِ قُرونٍ- لم يتقَرَّرْ فيها نظامُ الانتِخابِ العامِّ إلَّا عامَ 1918م، كما أغفَلْنا النظرَ إلى النتائجِ العمليةِ لِلأخْذِ بذلك النظامِ الانتخابيِّ في البلادِ التي سبَقَتْ لها تجرِبتُه، وإلى آراءِ رِجالِ الفِكرِ السياسيِّ بصَدَدِه، واقتصَرْنا على النظرِ إلى النُّصوصِ الدُّستوريةِ دُونَ التِفاتٍ إلى النتائجِ العمليةِ، إذْ قال: "حين تقرَّرَ في فَرنسا لِأوَّلِ مرَّةٍ نظامُ الانتخابِ العامِّ، سنةَ 1848م عُدَّ ذلك -كما يَقولُ الأستاذ بارتملي-: خَطَأً كبيرًا؛ لكِنَّ الـمَسألةَ ليست بهذه البساطةِ! لِأنَّه كَثيرًا ما يَكونُ هناك أكثرُ مِن خِيارَيْنِ يتعَيَّنُ انتِقاءُ واحِدٍ منهما، (أ) و(ب) و(ج)، فقد لا توجَدُ أكثريةُ 50 بالمِئةِ + 1 لِأيٍّ منها؛ ب، ب - ب، ج، أ - ج، أ، ب - ج، ب، أ - ومع ذلك قد لا تَظهَرُ أكثريَّةٌ واضحةٌ في الترتيب. ومع إشكالياتِ مُحدِّداتِ الأغلبيةِ، وهي تَمتلِكُ حَقَّ التشريعِ، مِن أنْ تَعصِفَ بحُقوقِ الأقليَّةِ، مُتبجِّحةً بأنَّها مُنتَخبةٌ مِن قِبَلِ الشعبِ، لِأنَّها تُمثِّلُ إرادةَ الأُمَّةِ صاحبةِ السيادةِ! والنتيجةُ الطبيعيةُ لذلك هي الاستبدادُ والطُّغيانُ"(36)؛ وقدِ استَشهَدَ بأقوالٍ لعَددٍ مِنَ الأساتِذةِ الغربيِّين وغَيرِهم في بابٍ مُهمٍّ بعُنوان: تطبيقُ النظامِ الديمقراطيِّ، لا تَخرِمُ مَبدأ َسيادةِ الشريعةِ بحالٍ؛ أو التدرُّجِ في تَطبيقِها؛ ومع ذلك فإنَّ العاجِزَ عن تَطبيقِ الشريعةِ يَجبُ عليه وُجوبًا التِزامُ ما يمكِنُه تطبيقُه منها في نَفْسِه ومَن حَولَه، ومَن تَحتَ وِلايَتِه، دُونَ أنْ يَكونَ لِأحَدٍ في ذلك خِيَرةٌ. وقد نبَّهتُ -وغَيري- إلى قاعدةِ الاستِثناءِ لِلضَّرورةِ في بداياتِ ما يُعرَفُ بالربيعِ العربيِّ، إثْرَ سُقوطِ رَأْسِ النظامِ التونسيِّ السابقِ، وعليه؛ ففي مُجتمعاتٍ تعمَّقَتْ فيها الأحزابُ غَيرُ الإسلاميةِ فِكْرًا، ويُعْمِلوا قواعدَ التدرُّجِ في بِناءِ دولةٍ تَدرَأُ الـمَفاسِدَ، وتحقِّقُ ما أمكَنَ مِنَ الـمَصالِحِ. الذي يَجبُ أنْ يستَمِرَّ وتتوارَثَه الأجيالُ،