لو كُشِفَ للإنسان عن سريرة الإنسان لرأى منها ما يرى من غرائب هذا الكون وعجائبه، أَعْمَى أَدْرَكَتْهُ رحمة الله بعد طول مِحْنَتِهِ فارتدَّ بصيرًا. تتراءى لك السريرة في ظاهرها كأنها أديم السماء أو صفحة الماء، فإن بدا لك أن تكتنه باطنها فإنك غير بالغٍ من ذلك مَأْرَبكَ إلا إذا استطعت أن تخترق السماء فترى ما وراءها من بدائع الكائنات، وتغوص في أعماق الماء فتشاهد ما في باطنه من عجائب المخلوقات. يعجز المرء عن رؤية الهباء فيتريث ريثما تَمُج الشمس لعابها من نافذة غرفته، فإذا هو مائجٌ وضَّاء يروح ويغدو رواح السانحات، ويعجز عن رؤية الجراثيم فيستعين عليها بمنظار يصورها في نظره تصويرًا يُخَيِّلُ إليه أنه يكاد يلمسها بيمينه، ويعجز عن اكتناه السريرة فلا يجد إلى الوصول إليها سبيلًا. وقف آدم أمام باب السريرة يومَ الشجرة يُعالج فتْحَه، ثم وقف بنوه من بعده موقفه فعجزوا عجزه، فَلَجَّ بهم الشوق إليها لجاجًا طار بعقولهم، فتراموا على أقدام المُنَجِّمِينَ والعرَّافين لثمًا وتقبيلًا، وهاموا بزاجرات الطير والضوارب بالحصى هُيَامَ الإبل العِطاش بمنازل الماء، إنك لَتَرَى الرجل يتلألأ جبينه تلألؤ الكوكبِ في جنح ليل مبرد، ويفترُّ ثغرُه عن الأنوار افترار الأكمام عن الأزهار، وتتمنَّى أنْ لو منحك الله ما منحه من هناءٍ ورغدٍ، وإنَّ بين جنبيه — لو تعلم — همًّا يعتلج، وقلبًا يَدِبُّ فيه اليأس دبيبَ الآجال في الأعمار، وكبدًا مقروحة لو عرضها في سوق الهموم والأحزان ما وجد من يبتاعها منه بأبخس الأثمان. وإنك لترى الصديق فيعجبك منه حديثه الحلو وثغره المبتسم، ويروقُك من وُدِّه كَلَفُهُ بك، ولو كُشِفَ لك مِنْ نَفْسِهِ ما كُشِفَ له منها لَوَدِدْتَ أنْ لو استطعت أن تبتاع أقدام السَّلِيكِ بجميع ما تملك يمينك، ففررت من وجهه فِرارك من وجه الأسود السالخ، ووددت بجدع الأنف ألا يصافح وجهك وجهه من بعدها حتى في جنة النعيم! وللتاريخ صفحاتٌ غير هذه الصفحات. لو علم الجند أنهم لا يحاربون إلا ليضعوا «نيشانًا» في صدر القائد أو جوهرةً في تاج الملك، لما دَالَتِ الدول ولا انتقلتِ التيجان، ولَضَعُفَ ظهر الأرض عن حمل ما فوقه من بني الإنسان. ولو علم جهلةُ المتدينين أنَّ رؤساء الأديان كثيرًا ما يشترون عقولهم وأموالهم بالقليل التافه من هذه المدهشات الدينية والأحلام النفسانية، وقَصُرَتْ قامات المنائر، ولَهَلَكَ أرباب الطيالِسِ والقَلانِسِ جوعًا وسغبًا، ولأصبحت حبَّات السُّبَحِ أكسدَ في سوق الأديان من بَعْرِ النُّوق في سوق الأنعام. ولو علم الابنُ أنَّ أباه يحبه لِمَا يرجو من منفعته في شيخوخته، وأنه لا يُعجب إلا بنفسه في إعجابه به وثنائه عليه، ولا يَفْخَرُ إلَّا بقوِّة عقله وحسن تدبيره في فَخْرِه بذكائه ونبوغه؛ لَضَعُفَتْ صِلةُ الوُدِّ بينه وبينه، ولو علمت الزوجةُ أنَّ زوجها يحبُّ منها جسمها أكثر مما يحب نفسَها، ولا اطمأنت لعهده،