أديب كما يهواه الإنسانيون ورياضي وفيلسوف وصوفي، ولد بمدينة كوسا من أعمال ألمانيا، ونشأ عند «إخوان العيشة المشتركة» وكانوا متأثرين للغاية بالتصوف الألماني في العصر الوسيط، وفي الخامسة عشرة أخذ يدرس الفلسفة بجامعة هيدلبرج، وفي السنة التالية انتقل إلى جامعة پادوڤا بإيطاليا، فدرس فيها القانون والرياضيات والفلسفة، ثم اشتغل بالمحاماة، فصار أسقفًا فكردينالًا، وكان موضع إعجاب وإجلال في مختلف المناصب التي تولَّاها، لما كان متحليًا به من التقوى والعلم وحسن تصريف الأمور، إذ أظهر نحوهم الشيء الكثير من التؤدة والتسامح. له رسائل فلكية ورياضية يبدو فيها ممهدًا لكوپرنك ولإصلاح التقويم، وله كتاب فلسفي اسمه «الجهل الحكيم» (١٤٤٠) وهذا لفظ وارد عن القديس بونا ڤنتورا، وسنوضح المقصود منه فيما بعد، والكتاب مقسم إلى ثلاث مقالات: في الله، ومذهبه فيه يرجع إلى ديونيسيوس وأبروقلوس وچون سكوت أريجنا ومن لف لفهم من فلاسفة العصر الوسيط؛ وذلك أن الأفلاطونية بانت له الوسيلة الوحيدة لتخليص الميتافيزيقا من الدمار الذي انتهت إليه على أيدي الاسميين، ولم تكن الأرسطوطالية في عهده توفر له هذا الغرض، فعارضها وبعث الصرخة التي لن تلبث أن تدوي في أرجاء أوربا: «لتسقط شيعة الأرسطوطاليين!». يصل الكردينال دي كوسا إلى الله والتصوف بتحليل المعرفة على طريقة الأفلاطونيين، المعرفة بالإجمال رد الكثرة إلى الوحدة، إذ أن الحواس تقبل الإحساسات متفرقة، وتدرك الأجسام إدراكًا غامضًا، ثم يزيد التوحيد بتكوين معاني الأنواع والأجناس، أي برد الجزئيات إلى ماهيات، ونظمها في قضايا وفقًا لمبدأ عدم التناقض، وهذا عمل العقل الاستدلالي، يعطينا علمًا محدودًا نسبيًّا مؤلفًا من احتمالات؛ لأنه ليس في العالم شيئان متشابهان تمام التشابه، وإنما هناك جزئيات منفصلة مستقلة لا يقاس بعضها على بعض، ثم يبلغ التوحيد أقصاه في الحدس، فتبطل عنده قيمة مبدأ عدم التناقض، وتدرك النفس توافق الأضداد التي يعرضها العقل الاستدلالي منفصلة متقابلة، إذ أن المعرفة لا تحصل بغير كثرة واختلاف، فكمال التفكير في وقوف التفكير، فالجهل الحكيم معرفة الفكرة لحدوده، واعتقاده بالوحدة المطلقة وراء هذه الحدود، وبأن ليس مبدأ عدم التناقض المبدأ الأعلى، وليس الجدل العلم الأعلى الذي يخضع له العقل والإيمان، إن النقائض والأضداد ملازمة لعلمنا بالمتناهي، فالخط المنحني إذا صححنا انحناءه إلى ما لا نهاية، وإذا فرجنا الزاوية القائمة في المثلث إلى ما لا نهاية، اختلط وترها بالضلعين الآخرين، ومتى اعتبرنا الحركة كأنها سكونات متتالية، فالله الموجود الأعظم اللا متناهي الحاوي كل وجود، حتى النقائض: «هو الأشياء جميعًا في حال الوحدة أو الانطواء، والعالم الأشياء جميعًا في حال الكثرة أو الانتشار، الله الموجود المطلق الذي بلغت فيه كل قوة إلى الفعل والعالم الموجود المتشخص المركب المنتقل من القوة إلى الفعل». وجود العالم لا وجود بالقياس إلى الوجود الإلهي؛ فلا يبقى لنا شيء نسميه، لأن كل اسم فهو ناشئ عن تفريق وتمييز، وهذا هو اللاهوت السالب كما صادفناه عند ديونيسيوس وسكوت أريجنا، وإذا أطلقنا على الله أسماء فإنما ندل فقط على أنه نموذج الموجودات ومصدرها، إذ إن كل موجود فهو يرمي إلى استكمال ماهيته، فإن طبيعته العقلية تسمح له باتحاد بالله أوثق، وكل هذا نعرفه عن الفلاسفة الذين ذكرناهم، وقد اتهم الكردينال دي كوسا بوحدة الوجود، وهو يفسر معنى توافق الاضداد والانطواء الإلهي بما لا يدع مجالًا للشك في مقاصده، فيقول إن الله أوجد العالم «عن قصد» لا ضرورة، وهذا ينفي كل اشتراك في الوجود بين الخالق والمخلوق.