في الفلسفة الميجارية والكلبية وانتهت كلتاهما الى التشكيك في امكانية اصدار أحكام نضيف بها محمولاً إلى موصوف، وعلى ذلك فلا يمكن مثلا أن نحكم بأن هذا الرجل خير، بل كل ما يمكن أن ننتهى اليه هو أن الرجل رجل أو أن الخير خير على نحو ما قالت الفلسفة الايلية أن الوجود موجود ولا شئ موجود سوى الوجود واستطاع أفلاطون أن يقدم نظرية تبين أن الوجود ليس واحدا ثابتا كما ذهب بارمنيدس فى محاورة السفسطائى وانتهى أفلاطون الى القول بأن المثل متعددة وهي تفترض علاقات بين بعضها وبعض، فهى ليست منعزلة يستحيل معها أيجاد علاقة بين بعضها ولابد لكى يمكن قيام اللغة العلمية أن تتصل الماهيات ببعضها، ولكن هذا الاتصال لا يجرى بغير نظام فتنتهى الى التغير المستمر الذي ينتفى معه الكلام بل هناك مثل تقوم بدور الواسطة التي تقوم بمهمة التأليف والربط بين المثل بعضها بالبعض الآخر وهى التى يسميها بالأجناس العليا الخمسة الوجود والذاتية والاختلاف والحركة والسكون (۱۹) فتنتهى محاورة السفسطائي على العموم الى اثبات أن كل شئ بوصفه ذاته يشارك في الوجود وبوصفه غير الأجناس الأخرى يشارك فى اللاوجود الذى هو الغير أو الآخر، وما دام أفلاطون قد نجح في أثبات اللاوجود فقد نجح بالتالي في تفسير الأحكام الخاطئة، فالأحكام الخاطئة ما هي الا أثبات علاقة غير ، قائمة وبهذا التفسير أمكن بالتالي تفسير حقيقة السفسطائي أو المغالط الذي يعتمد فنه على الاقناع بالتصورات والاحكام الخاطئة. ويقدم أفلاطون مثلا يوضح به ما هو الحكم الخاطئ فيقول : اذا قلنا أن ثياتيتوس يطير وكان ثياتيتوس جالسا فقد قدمنا حكما خاطئا ويرجع هذا الخطأ الى أن هناك مثالا للجلوس ومثالا آخر للطيران ولما كان ثياتيتوس لا يمكن أن يشارك في أحد هذين المثالين فان الحكم الخاطئ هو تقرير تلك المشاركة التي ليس لها وجود. والخلاصة أن الأحكام العقلية أو التصورات العامة المصاحبة للاحساس لا تكفى لتفسير الحقيقة القصوى ولكنها مطلوبة في الحياة العملية، ومثل هذه المعرفة العقلية التي هي في مرتبة وسطى بين الاحساس وتعقل المثل هي أقرب أنواع المعرفة للاستدلال الرياضي العلوم الرياضية : ويظهر تأثر أفلاطون بالعلوم الرياضية المزدهرة فى عصره في تلك العبارة التي توج بها مدخل أكاديميته فقال : لا يدخل الأكاديمية الا من كان ملما بالهندسة لذلك فقد جعل من دراسة العلوم الرياضية تمهيدا لدراسة الفلسفة في نظام تربيته للحكام الفلاسفة. أما العلوم الرياضية التى كان أفلاطون يعنيها في هذا النظام فهي الحساب والهندسة والفلك والموسيقى، وهو لا يعنى بالحساب فن العد الذي يستخدمه التاجر أو القائد ولكنه يعنى به دراسة نظرية للأعداد والخصائصها (۲۰) . أما الهندسة فهى ليست قياس المساحات ولكنها دراسة للنسب المعقولة، أما علم الفلك فهو دراسة للنظام البادى فى حركة الكواكب. وقد ارتبط علم الموسيقى عند أفلاطون بعلم الفلك، لأن الموسيقى تبحث في الائتلاف والنسب الرياضية التي تدخل في نظرياتها. لكن المعرفة الرياضية على الرغم من أهميتها عند أفلاطون تظل في مرتبة أدنى من معرفة المثل، وذلك لأن الرياضة تعتمد على فروض ومسلمات ليس وجودها يقينيا ثم تسير بطريق الاستدلال في استنباط النتائج المترتبة على الفرض الأساسي الذي سلمنا به ولذلك يسميها أفلاطون بالعلم الذى لا يستغنى عن استعمال الفروض والضرورة فيها ضرورة فرضية كما يقول أرسطو. ومثالها يظهر حين يقول : اذا وجد المنزل فأساسه بالضرورة موجود، اذا ضربنا سبعة في سبعة فالناتج ضرورة هو تسعة وأربعون، أما العلم اليقيني فهو الجدل الذي لا يعتمد على الفروض hypothesis بل يبدأ باليقيني الذي لا يكون هناك شك في وجوده فاذا عرف هذا المبدأ أمكن لنا تحديد حقيقة كل شئ آخر بالنظر الى صلته به ولكن كيف ندرك هذا المبدأ؟ . ١٧٤ معرفة المثل : لیست معرفة المثل فى متناول أى أنسان من الناس وأنما هي وقف على الصفوة منهم على الفلاسفة أولئك الذين خصتهم الطبيعة بمواهب لا تتوافر عند سائر الناس خصتهم بأنقى النفوس معدنا تلك النفوس الطاهرة التي وصفها في محاورة فايدروس بأنها قد حظيت في الزمان الغابر بالرؤية الصحيحة، ويعرض أفلاطون نظريته فى التذكر في محاورتى مينون، وفيدون، ففى محاورة مينون يصور أفلاطون مينون متذمرا شاكيا من سقراط. فسقراط بحواره وجدله يكاد يهدم كل ما فى ذهن الناس من معرفة ومن علم ومن يقين أنه أشبه شي بالأسماك التي تخدر من يقترب منها . وحتى هو ليس في أحسن حال ممن يخدرهم فهو مخدر لا يعرف ما هى الفضيلة التي يسأل الناس عنها غير أن سقراط يظل يلح على ضرورة بيان ما هى المعرفة فيقول : أن كنا نبحث عن شئ نجهلة فكيف نتعرف عليه اذا صادفناه وان كنا نبحث عن شئ لا نعرفه فما فائدة أن نبحث عنه؟ ثم ينتهى هذا التساؤل بقوله : أن هناك من الأحاديث المشهورة عند الحكماء والكهنة وعند الشعراء أمثال بنداروس نظرية تقول: أن النفس الانسانية خالدة وأنها لا تفنى بالموت ولكنها تولد في حياة أخرى. وما دامت النفس قد كان لها وجود سابق على هذه الحياة فلابد أنها قد عرفت كل شئ منذ القدم ويمكنها التذكر ، ولكى يثبت هذه النظرية يستدعى عبدا لمينون ثم يأخذ في توجيه أسئلة لهذا العبد فى الهندسة فيجده يجيب باجابات صحيحة، فيستدل من ذلك على أن المعرفة كامنة في النفوس. ويشرح أفلاطون التذكر فى محاورة فيدون فيفسر كيف يتنبه العقل عند رؤيته للمحسوسات فيتعرف على حقيقتها التي سبق للنفس أن رأتها في حياتها السابقة. ويذهب الى أننا حين نرى شيئين متساويين فى الواقع فأننا نحكم عليهما بالتساوى لمعرفتنا السابقة بحقيقة المساواة. ولولا هذه المعرفة السابقة لما أمكننا أصدار مثل هذه الأحكام. ۱۷۵ ويعرض أفلاطون درجات المعرفة الجدلية المختلفة التي يتدرج فيها الفيلسوف حتى يحظى برؤية المثل فيقول موضحا هذا المنهج: " سقراط: اليك اذن ما يقوم بتحقيقه الديالكتيك، وأن ملكة البصر لتشبهه شبها قويا خاصة عندما نحاول كما ذكرنا أن ننظر الى الكائنات الحية ثم الى الكواكب وأخيرا الى الشمس ذاتها. حين يواصل سيره الى أن يدرك بالفكر وحده ماهية الخير فيصل الى قمة العالم المعقول كما يصل سجين الكهف الذى قد تحرر من الظلام الى رؤية قمة العالم المنظور. أليس هذا ما تسميه بالمسار الديالكتيكي؟ أجل بلا شك. سقراط، لتذكر سجين الكهف (۲۱) أنه بمجرد أن يتلخص من قيوده يتجه من أبصار الظلال الى الأجسام المستضيئة ، وحين لا يقوى على النظر الى الشمس مباشرة يأخذ في تدريب بصره على رؤية الأشياء المستضيئة بها، Rep. VI, 525. الاستدلالی La Connaissance discursive يدل على شئ أقل وضوحا من العلم وأكثر وضوحا من الظن أى ادراك الظواهر المحسوسة، ولكن ليس الآن وقت الجدل حول الأسماء خاصة عندما نكون بصدد مسائل هامة مثل تلك التي نناقشها الآن. يكفينا اسما يوضح لنا فكرنا ؟ سقراط، وأذن فمن رأيي أن نحتفظ بتلك الأسماء السابقة التي أطلقناها على الأقسام الأربعة للخط المنقسم ( المذكور ٥۱۱ الباب السادس) فالجزء الأول منه علما والجزء التالى الذى يليه يسمى فكرا استدلاليا والثالث اعتقادا والرابع تخمينا. والجزءان الأولان نطلق عليهما اسم العقل intelligence أما الآخران فنطلق عليهما اسم الظن Opinoin وموضوع الظن هو الكائنات الفاسدة La génération أما العقل فموضوعه الماهية L'essence ولنضف أن نسبة الماهية الى الكائنات الفاسدة كنسبة العقل الى الظن وأن علاقة العقل بالظن كعلاقة العلم بالنسبة للاعتقاد (۲۲) ويوجههم على هذا النحو يترقى الفيلسوف فى درجات المعرفة حتى تتم له رؤية الحقيقة تلك الحقيقة التي يصفها فى محاورات أخرى (۲۳) . بأنها تظهر في النفس كما ينبثق الضوء من الظلمة، غير أن هذا الشرح الذي قدمه أفلاطون لطريق المعرفة الذي يسلكه الفيلسوف هو الجدل الذى عده أفلاطون فن الفيلسوف وغايته تعريف هذه المثل التي ندركها بالتعقل أو بالحدس واثبات يقينها وحقيقتها. انظر الترجمة العربية للدكتور فؤاد زكريا ص ۲۷۱ الی ص ٠٥٣٤ ٢٤) انظر فايدروس والرسالة السابعة. فن الديالكتيك كما يسمى باللغة اليونانية هو فن المناقشة والجدل وهي المناقشة التي تهدف الى كشف الحقيقة (٢٥). وقد وضع سقراط اللبنة الأولى فى بناء الديالكتيك عندما حاول أن يصل الى مفهوم واحد ثابت للفضائل المختلفة من خلال المناقشة والحوار. ونجد أمثلة واضحة لاستعمال هذا المنهج في محاورات أفلاطون المبكرة أو في المحاورات السقراطية مثل محاورات لاخيس، ليزيس وأوطيفرون، وهيبياس. الخ. غير أن أفلاطون قد خطى خطوة أخرى أبعد مما وصل اليه سقراط وذلك حين بحث في التصورات العقلية، لا في عالم الأخلاق وحده بل فى عالم الطبيعة بأسرها. وكان بحثه عن هذه الحقائق هو أيضا بحث التصورات العقلية الثابتة التي تفسر الموجودات الجزئية المحسوسة. وكانت التصورات العقلية عنده تعنى الأنواع والأجناس الكلية التي تكون عالم المثل العقلية. وقد عرف أفلاطون الديالكتيك فى محاورة الجمهورية بأنه المنهج الذي به يرتفع من المحسوس الى المعقول دون أن يستخدم شيئا محسوسا، وانما بالانتقال من فكرة الى فكرة بواسطة فكرة (٢٦). ومعنى هذا أننا اذا أخذنا في دراسة فكرة أو تصور معين فاننا لا ينبغي أن نكتفى بالوقوف عند حد هذه الفكرة بل لابد أن نردها إلى فكرة أخرى أعم منها وأشمل وهذه إلى ثالثة أعم من الجميع أى نصل من المشروط الى شرطه أو من ٢٥) ٢٦) أصبح الديالكتيك عند أرسطو يعنى الاستدلال القائم على الآراء السائدة وليس على المقدمات اليقينية كالبرهان. وفي العصور الوسطى أصبح الديالكتيك يعنى المنطق الصوري ويكون مع الخطابة والنحو الثلاث في الفنون الحرة السبعة وفي العصر الحديث يعنى الديالكتيك منطق الجدل أو الحوار ولكنه أصبح عند هيجل منطق الفكر وقانون الوجود حيث ان المعقول وحده هو الموجود. أما عند مركس فهو قانون الحركة المادية في الوجود وبالتالي منهج المعرفة بهذا الوجود المادي. ۱۷۸ العلول الى علته حتى نصل الى فكرة هي أعم الأفكار جميعا وأكثرها حقيقة وأعلاها مقاما، وهذه الفكرة ليست سوى مثال الخير. وهذا هو ما يعينه أفلاطون حين يقول ان أى معرفة أيا كانت رياضية أو علمية أو أخلاقية لا قيمة لها ما لم تكن تهدف فى آخر الأمر الى تحقيق الخير أو ما لم ينظر اليها من خلال ضوء فكرة الخير ومدى قربها أو ابتعادها عنها. وينتهى فى الجمهورية الى وصف الخير بانه يقوم في العالم المعقول مقام الشمس في العالم المحسوس فهو يضفى على المعقولات الضوء الذي به تكون مرئية والحرارة التى تكسبها الحياة. رؤية الخير كما يصفها أفلاطون في محاوراته العديدة هي رؤية مباشرة وحدس عقلى وبغير حدوث هذه الرؤية والوصول الى المبدأ الأعلى لكل الموجودات يظل العقل فى تشتت لأن معرفة الخير هي هدف كل العلوم الجزئية التي تفتقر دائما الى النظرة الكلية أو الى النظرة الفلسفية التي تحدد علاقة هذه العلوم ببعضها ثم تحدد الأسمى لجميعها (۲۸). اذ يصعد الفيلسوف من ادراكه للجمال الجزئي المحسوس الى الجمال الأعم الذي يكون العنصر المشترك في كل المحسوسات الجميلة ثم الى الجنس الأعم الذى يشمل بالاضافة الى جمال المحسوسات جمال Rep. Rep. 505 c. ۲۷) ۲۸) وقاطع الخشب يحضره للنجار فيصنع السرير ليستعمله الانسان فيتم تحقيق خير معين وهكذا. المعنويات من نسب هندسية أو معان خلقية حتى يصل في النهاية إلى الجمال في ذاته أو المبدأ المشترك فى كل ما يمكن أن نصفه بأنه جميل (٣٠). 3., 265-266, rr) U. F. 3-5. ۱۸۰ أ ، بـ ، ب، د، و) وعلى هذا النحو يسير أفلاطون عند تعريفه للسفسطائي فيبين أن للقنص نوعين، ويعنى فى محاورة فايدروس بمنهج القسمة الثنائية ويشترط أن تراعي في هذه القسمة طبائع الاشياء (٣) . 231d-232a Soph. 253 d. Phèdre, 265. يكون علة ضرورية للاستدلال على النتيجة. ٣٥) ٣٦) ۳۷) الفصل الخامس: تفسير الطبيعة يعد أفلاطون أهم من أكد أرتباط علم الطبيعة بالبحث في الألوهية والنفس وهو الذي وجه هذا العلم في أتجاه غائى استمر بعد ذلك عند أرسطو والراوقيين ويتضح هذا الارتباط عند أفلاطون بخاصة في المحاورات التي تناول فيها تفسير العالم الطبيعى مثل محاورة القوانين وفى بعض نصوص محاورات فليبوس وفايدروس والسياسي. وعلى الرغم من تأثر أفلاطون بالفيثاغوريين الذين لجأوا الى الكم في تفسيرهم للعالم الطبيعى ووصلوا في دراساتهم فى الفلك والموسيقى الى نتائج باهرة الا أن الأمس الفلسفية التي استند اليها أفلاطون فى تفسيره للطبيعة قد حالت بينه وبين تقدم هذا العلم على يديه. ولعل أخطر هذه الأسس التى سلم بها أفلاطون هى تصوره أن الحقيقة لا توجد في عالم المحسوسات وإنما في عالم مفارق هو عالم المثل. وتبعا لذلك فلم يكن في الامكان أن تحظى الرياضيات عنده بقيمة طالما كانت مرتبطة بعالم الموجودات الطبيعية لأنه عالم الظلال والأشباح أو عالم التغير والصيرورة. وتقدير أفلاطون للعلوم الرياضية من حساب وهندسة هو تقدير مرهون باستقلالها عن عالم الخبرة الحسية وبقائها في مستوى التجريد العقلى والنظر الخالص. وقد ترتب على ذلك بالضرورة أن أهمل أفلاطون العناية بتكميم العلم الطبيعي أو قياس الظواهر الطبيعية قياسا رياضيا يلخصها في قوانين دقيقة كما قلل من أهمية التجربة والملاحظة فحال دون تقدم علم الطبيعة الذي كان يمكن أن يخطو مع السابقين عليه وبخاصة الفيثاغوريين خطوات عظيمة. حتى لو تسامت الى البحث في أرقى المحسوسات أقمار السماء وكواكبها. يقول ردا على من أخذ يطرى علم الفلك لأنه يوجه أبصارنا إلى النظر إلى أعلى أما عن نفسي، فانني لا أعرف علما يجعل الذهن يتطلع الى أعلى سوى ذلك العلم الذي يتخذ من الحقيقة غير المرئية موضوعا له. فلن تكون هذه معرفة علما على الاطلاق. اذ لا يمكن أن يكون ثمة علم بالمحسوس، فالنفس في هذه الحالة أنما تنظر الى أسفل سواء أكان المرء يدرس وهو راقد على ظهره أم وهو طاف على الماء وما ينطبق على الفلك ينطبق أيضا على الموسيقى. " وقد وقع دارسو الانسجام Harmony في نفس الخطأ الذي وقع فيه دارسو علم الفلك فاقتصروا على قياس الأنغام التى تستطيع الأذن سماعها وما بينها من توافق وبهذا كان جهدهم كجهد علماء الفلك عقيما . أنهم يفعلون عين ما يفعله علماء فيبحثون عن الخصائص العددية في التوافقات المسموعة ولكنهم لا يرقون الى المشاكل ذاتها أى البحث فى أى الأعداد يكون بطبيعته منسجما وأيها يكون غير منسجم، وفي السبب في كلتا الحالتين"(1). على هذا النحو أخذ أفلاطون يتحدث ساخرا عن منهج الفيثاغوريين بعد أن نسى أن تجارب هؤلاء الفيثاغوريين وملاحظاتهم فى الموسيقى والفلك هي التي انتهت بهم الى وضع القوانين الرياضية. لكن أفلاطون لم ير من نفع أو قيمة لهذه القوانين الرياضة الا بقدر ما تنبه الذهن لكى يرقى الى ادراك الخير والجمال واتخذت دراسته للعالم الطبيعي اتجاها غائيا فلم يعن بمعرفة العالم أو تفسير حقيقته من أجل السيطرة على الطبيعة كما كان يفعل السابقون على سقراط بل أصبحت هذه المعرفة موجهة فى النهاية الى تبين الحقيقة المثالية العليا التي يكون في الاقتراب منها غاية السعادة والطهارة للنفس الانسانية. ومما لاشك فيه أن موقف أفلاطون فى السياسة والأخلاق هو الذي أملي عليه الاتجاه العام فى فلسفته الطبيعية وقد سادتها فعلا النظرة العامة الى الحياة Tim. ونقطة البداية فى العلم الطبيعي عند أفلاطون هي محاولة تفسير التغير أو الصيرورة البادية فى الكون هذا التغير الذي لفت أنظار السابقين على سقراط وانتهوا الى القول بمبدأ ثابت هو أيضا علة هذه التغيرات. وهو المادة التي سموها بالطبيعة Physis. أما أفلاطون فقد لاحظ أن كل متحرك لابد أن يفترض محركا، ولما كان المتحرك من صفاته المادية فقد أصبحت أول شروط المحرك عند أفلاطون هي تجرده من المادية لذلك فقد أنتهى الى أن المحرك والعلة في حركة الطبيعة هي النفس اللا - مرئية وهي التي عرفها في محاورة فايدروس بأنها المبدأ الأول الذي لا يستمد حركته من أى مبدأ سابق عليه والتي منها يستمد الوجود كله حركته فهى الحركة الأولى أو الحركة التي تحرك ذاتها ثم تهب الوجود كله حركته المستمرة الأبدية (٢). ويصف هذه الحركة الأولية بأنها أزلية أبدية وهي دائريه منتظمة لا تحتاج ويصف حركة هذه النفس الأولية فى محاورة القوانين وصفا يجعلها أقرب الى النشاط السيكلوجي فمن حركاتها التفكير والتروى والظن والفرح والحب Phidre, 245. Kukiophora, ولا تقتصر مهمة النفس الكونية على مجرد تحريك الكون وأنما يرجع اليها الفضل في تنظيم هذه الحركة واطرادها على نحو ثابت منتظم. لذلك فينبغي تصور هذه النفس على أنها عاقلة بل أقرب أن توصف بأنها عقل الهي. وفي محاورة تيماوس يتناول أفلاطون مهمة هذه النفس الالهية في تكوين العالم بكثير من التفصيل، وأهم ما ورد في محاورة تيماوس بهذا الصدد هو ادخاله فكرة الاله الصانع الذى صنع الكون وصنع له نفسا كونية تدبره فجاء هنا بازدواج في فكرته عن النفس الكونية الأولية التى هى العلة في حركة الكون ونظامه الأمر الذي جعل بعض المفسرين لفلسفة أفلاطون يقصد القول باله متعال وآخر مباطن للكون، والأرجح أن أفلاطون لم يقصد هذا التفسير اذ لا نجد في المحاورات الأخرى ما يثبت هذه النظرية وأن وجدنا ما يثبت عنده نوعا آخر من ثنائية المبادئ عندما جعل للخير نفسا وللشر خلصة في محاورة القوانين وهذا ما جعل الكثيرين يجزمون بتأثره الكبير بالشرقيين الفرس والفيثاغوريين. وخلاصة القول في هذا الموضوع أن الاله الصانع هو والنفس الكونية الأولية التي ذكرها في المحاورات الأخرى (٦) . على أنها العلة الأولى في حركة الكون شئ واحد أما التمييز بينهما فلا يعنى أكثر من الاشارة الى المظاهر المتنوعة لنشاط النفس الالهية ولا يظهر للنفس الكونية فى محاورة تيماوس أى وظيفة هامة في حين ينسب للاله الصانع مهمة تكوين العالم ونفوس الكواكب والأرض وهى Laws 897. Démiurge, demiurgos. التي تشاركه مهمة تكوين نفوس البشر والكائنات الحية الأخرى ولذلك يبدو أن افتراض نفس كونية بجانب الاله الصانع هو افتراض زائد عن الحاجة () . أما عن المهمة التي يقوم بها الاله الصانع في تيماوس فلا تصل الى حد خلق المادة من العدم وأنما تقتصر على مجرد تنظيم المادة الأولية غير المشكلة التي سماها بالقابل Chora ( Receptacle) وذلك بحسب النموذج المثالي للموجودات الطبيعية الذي سماه الحى بالذات" autozoon Oxford university Press, London 130. 1949 p. 30 c. ۷) 333 ۹) 1. الى أرسطو الذى ربط بين المادة وبين العنصر غير القابل للمعقولية وعدها الطرف المقابل للصورة المعقولة وقد كان لهذه النظرة الى المادة خطورتها البالغة التي عرقلت تقدم علم الطبيعة حتى العصر الحديث حين أحلت الفلسفة الحديثة محل هذا التصور للمادة تصورا علميا هندسيا. وقد رأى بعض المفسرين وعلى رأسهم زللر ZELLER أن تصور أفلاطون للمادة يقترب الى حد كبير من التصورات العلمية عند الفلاسفة المحدثين، هذا الوصف الذي ذكره أفلاطون للمادة في محاورة تيماوس يبرز لنا معارضتها الدائمة لفعل العقل وهذه المعارضة انما تفسر لنا بدورها تلك الثنائية التي يقول بها أفلاطون فى محاورة القوانين حيث يتحدث عن وجود علتين احداهما نفس خيرة هى علة الخير فى الكون ونفس سيئة هي علة الشر. cf. V. Le devenir dans la philosophie de Platon Bibl Dauri de (11) Congrés interntionale de philosophie IV, Tim. 50-51, Rileb 15. ۱۸۷ ۱۲) ويكفي أن نلقي نظرة على بعض ما يذكره في محاورة القوانين لنتبين مدى ثورته على التفسيرات والآراء المادية الشائعة عند الشعراء والفلاسفة الطبيعيين الذين فسروا تفسيرات مادية وأخذ يصفهم بالالحاد ويطالب بعقابهم لأنهم جهلوا حقيقة أساسية وهي أن العلة الأولى هي النفس لا المادة، ويقول الغريب الاثيني لكلينياس الكريتي: " لدينا في أثينا كتب علمت أنها لا تدخل بلادكم بعضها منظوم وبعضها الآخر غير منظوم، وهذه الكتب لا يمكنا منعها لشدة قدمها، ولا أملك مدحها بأي حال من الأحوال، ولا حتى من باب المجاملة للآباء، وعلى كل فلنترك هذه الروايات تمر ولكن لنرجع الى هذه الاتجاهات الحديثة عند علمائنا المحدثين لأنها المسؤلة في نظرى عن الخطر الجسيم. فهم يقولون كذلك، أن النار والماء والأرض والهواء موجودة بالطبيعة وبالمصادفة ولا شئ منها يرجع الى الفن. وبتلاقي الأضداد الحار والبارد والجاف والرطب اللين والصلب حدثت السماء وكل ما تحتوى عليه. Lois 898. -ΣTAA] ۱۳) كل هذا قد تم من غير تدخل العقل. ولم يحدث بفضل اله أو بفن، ولنرجع مرة أخرى لمحاورة تيماوس لنرى كيف فسر أفلاطون تكوين هذا العالم. تكوين العالم في محاورة تيماوس : على الرغم من أن محاورة تيماوس تعد دائرة معارف للعلم الطبيعي عند أفلاطون الا أن لها عنده أهمية كبرى تتعلق بأفكاره السياسية والأخلاقية، فقد قصد أفلاطون من كتابتها أن يقدم فيها مدى الاتصال الوثيق بين طبيعة الكون وطبيعة الانسان. ويستهل أفلاطون المحاورة بسرد تاريخ أثينا القديم فيذكر ما بلغته هذه المدينة الخالدة من حضارة زاهرة قبل تسعة آلاف عام وما حققته من نصر على سكان جزيرة أطلنطيد غير أن اليونان نسوا تاريخهم القديم في حين حفظه المصريون ثم يتشعب الحديث الى البحث في تاريخ العالم وذلك بمناسبة وجود تيماوس أشهر فلكى أيامهم وبعد أن ينتهى تيماوس من الدعاء للآلهة يثير مشكلة البحث عما هو ثابت دائم وما هو صيرورة مستمرة فيبين أن النوع الأول هو ما يسمى بالوجود أما النوع الثاني فهو الصيرورة. فاذا تساءلنا لم وجد العالم؟ يقول لأن الله خير فقد فضل النظام على الفوضى ورأى أن ينظم المادة غير المنظمة فيجعل هذا العالم نظاما Cosmos واستر شد في تكوينه لهذا العالم بالمثل أو بالنموذج الذي سماه الحى بالذات. ولكن لما كان كل حادث جسمانيا وبالتالي شيئا مرئيا ومحسوسا فقد كون الصانع هذا العالم من العناصر الأربعة فأدخل فيه النار ليكون مرئيا والأرض ليكون صلبا والهواء والماء كعناصر متوسظة ووهبه شكلا كرويا وحركة دائرية، ولكن لما كان الحى أفضل من غير الحي فقد صنع لـه نفسـا Lois 886-889. ۱۸۹ تتخلله وتحيط بجسمه وتوجه سيره 01)" واستخدم في صنع هذه النفس الكونية طبيعتين أو ماهيتين طبيعة الذات même وهى الماهية البسيطة اللامنقسمة التي بفضلها تعقل النفس المعقولات وطبيعة الغير L'autre أو الماهية المنقسمة التي تدرك المنقسمات الماديات وأضاف اليهما طبيعة ثالثة هي مزيج من الطبيعتين السابقتين واستخدم فى عمله هذا النسب الرياضية والمتواليات الحسابية. وعندما تدور هذه الكواكب في أفلاكها تصدر منها موسيقى سماوية لا يسمعها الا القليلون في حالات الجذب وقد قارن أفلاطون بينها وبين الأصوات الثمانية للأوكتاف فنسب لفلك الثوابت وهو أبعد الأفلاك عن الأرض واكثرها سرعة Mété أما فلك القمر فهو أبطأها ولذلك نسب له نغمة الهيباتي hyapte وبعد أن صنع الصانع للكواكب أجسامها النارية الخالدة وهبها نفوسا خالدة ذات حركة خالدة أما الأرض فهى فى مركز الكون ويميل أفلاطون الى القول بأنها ثابتة فقد نص على ذلك في محاورة فيدون (١٦) كما ذكر في تيماوس أن مادة الأرض لا تقبل الحركة بخلاف العناصر الأخرى. هذا بالاضافة الى أن نظام الفلك عنده لا يستقيم الا مع القول بثبات الأرض ويفسر أفلاطون اختلاف العناصر الأربعة التي يتكون منها جسم العالم تفسيرا يظهر تأثره بفلسفة الفيثاغوريين والذريين على وجه الخصوص. فقد ذهب الى أن العناصر الأربعة هى مسطحات ذات سمك يمكن ردها الى مثلثات ذات أشكال مختلفة (۱۷) فمن هذه المثلثات تتكون ذرات مختلفة الشكل ومختلفة الكيفيات تبعا لهذا الاختلاف فى الشكل غير أن أفلاطون قد أضاف كثيرا من الغموض الى نظرية الذريين الذين استفاد منهم كثيرا ويظهر هذا الغموض في ما أضافة الى نظريتهم من آراء مثل قوله ان الذرات قابلة للتغير بتأثير المكان. Tim. 34 - 37. 10) ۱۷) تيماوس ٥٣ - ٥٥ ولما كان عنصر الأرض أو التراب مكونا من ذرات مكعبة الشكل فقد أصبحت أقل العناصر قابلية للحركة فى حين أن النار أصبحت أكثرها قدرة على الحركة لأنها ذات أطراف مدببة أشبه بالشكل الهرمي ويمكن للعناصر أن تتحول الى بعضها عن طريق التكثف والتخلخل، ويتسع بحث أفلاطون فى الطبيعة لتفسير نشأة المعادن المختلفة عن تفاعل هذه العناصر مع بعضها ودراسة كثير من الظواهر الجوية تلك الدراسة التي يظهر تأثيرها في دراسة أرسطو في كتاب الآثار العلوية. وفي نهاية المحاورة يعنى أفلاطون بتركيب الكائنات الحية فأجسامها مركبة من العناصر الأربعة واحساسها بالحرارة والبرودة يؤكد وجود النار والماء فيها بل ان النار فيها هي مبدأ يساعدها على الحركة أما الأرض فهى العنصر الرئيسي في بناء أجسامها ويسترسل الى الحديث عن تشريح الجسم الانسانى فيتحدث عن أعضاء الجسم وبخاصة القلب والكبد والرئتين والحجاب الحاجز والعضلات المختلفة وتركيب الجهاز الهضمى وغايته من كل هذه الأبحاث هي بيان الغائية السارية فى العالم الطبيعي واظهار النظام والتناسق في تركيب الجسم الانساني بحيث يظهر كيف يمكن للنفس أن ترتبط به وتوجهه. وبعض أعضاء الجسم ذات أهمية خاصة في تحقيق هذا الاتصال، فالعنق مثلا هو الفاصل بين مكان النفس العاقلة والنفس الغضبية وهو فى نفس الوقت معبر يصل بين هاتين النفسين، والحجاب الحاجز فاصل بين النفسين العاقلة والغضبية وبين النفس الشهوانية. والقلب يقوم بمهمة الربط بين كل أجزاء الجسم عن طريق الدم أما الكبد فهو مركز النفس الشهوانية وعلى سطحه الأملس تنعكس كل الصور الصادرة من العقل الى هذا الجزء. ويذكر أفلاطون كثيرا من المعلومات عن فسيولوجية الجسم الانساني ١٨) تيماوس ٤٩ ۱۹۱ ويعني بوظائف التغذى والتنفس وعمل الحواس، الانسان : أما الانسان فهو عند أفلاطون المشكلة الرئيسية التى دفعته إلى البحث في شتى المجالات ليبين طريق سعادته وخيره. والانسان عند أفلاطون كائن ذو طبيعة ثنائية فهو بماله من نفس ينتمي للعالم العقلى الالهى الخالد وبما له من جسد ينتمى للعالم الحسي الفان وحقيقته وجوهره هى النفس الانسانية ففى محاورة القيبادس نفس توجه بدنا. أما عن طبيعة النفس الانسانية فهى من طبيعة الآلهة الخالدة فقد صنع الله نفس الانسان من جوهر نفوس الكواكب الخالدة غير أنه لما كان لا يليق بالخالد أن يصنع ما هو فان فقد ترك لنفوس الكواكب صنع الأجزاء الفانية من نفس الانسان ونفوس الكائنات الأخرى الفانية. وكانت كما يصفها في محاورة فايدروس تتبع موكب الآلهة في دورات معينة غير أنه نظرا لفقدانها توازنها تسقط في أجسام البشر وما تنفك تسعى بعد ذلك الى حياتها الأولى (۲۰) فالنفس بحسب هذا الوصف أزلية خالدة. (٢٠) فايدروس ٢٤٨