واقفان ينتظران حتما الناقلة من قرب محطة الحافلات. ولكن مرارة الغربة ومعاناتها جعلتني استهلك يوميا السموم بأثمان باهظة, فلولاها لكنت قد اشتريت منزلا هادئا أو يختا مريحا أبحر به حيث أشاء. حتى بسيارة صغيرة الحجم من نوع "فيات الإيطالية" تتوقف فجأة أمام الطفلين الذين كانا متواجدين مباشرة تحت مرمى بصري. كانت المرأة تخاطبهما بابتسامة مماثلة، ربما كانت والدتهما أو من عائلتهما أو جارتهما، وبينما هي تكلم الأولاد عبر المرآة الداخلية للسيارة، استمرت في السير بشكل بطيء وعيناها تحدق نافذتي وكأنها تذكرتني. وبدأ الفشل يعم على جسدي فجلست على الكرسي الخشبي الذي يعود إلى حقبة القرن التاسع عشر، وكانت المروحة المعلقة في السقف صواب عيني تدور ببطيء لتهوية الحجرة ويدور معها عقلي حيث احسست وكأنني اسقط من عالم اخر عبر الزمن. وأن يصلي علي أهل قريتي المؤمنون ذوي النوايا الحسنة والقلوب الرحمة، أكون باستطاعتي حينها الرد على سؤالهما باللغة العربية التي قد نسيت منها الكثير الآن، سأوصي بحضور أكثر من عشرة أشخاص ليشهدوا لي بالصلاح وأن يشفعوا لي لأفوز بالجنة، أكيد أنهم سيحرقون جثتي إن لم أشتر موضع قبري ما دمت حيا. كنت شابا قويا حينها لما قدمت استقالتي إلى صاحب عملي، تذكرت ذلك اليوم الذي توجهت فيه إلى الشاطئ بمدينة مستغانم غرب البلاد. التقينا نحن النفر من الشباب "الحراقة" في المكان الموعود وذلك بعد الإجراءات والمواعيد والاتفاقات السرية المسبقة. جلسنا مطأطئين الرؤوس وانطلقنا به بأقصى سرعة وكأننا نطير، فأبحرنا وبمعيتنا القليل من الزاد والماء. هذا الأخير كان يغني تارة "خوليو" وتارة "عبد الحليم حافظ" وتارة "آزنافور". كما أزعج البعض الآخر وخاصة أحد المسافرين الذي كانت تبدو علامة السجود جلية على جبهته، وكلما أدرت وجهي له لف بصره الى يمينه. حيث حملتنا لعشرات الأمتار في السماء حتى قلبت قاربنا رأسا على عقب فسقطنا كلنا في الماء واختفى منا ثلاثة ومن بينهم الأشقر، وبينما نحن ننتظر ظهور المفقودين الذين سقطوا في المياه، إذ بنا نسمع صراخ النجدة يبعد عنا شيئا فشيئا حتى اختفى كليا. لأنه هو الوحيد الذي سمعنا صوته خلال الرحلة. أعدنا القارب على حاله بعد عناء وجهد كبير كدنا أن نهلك جميعا، وفقدنا أحد المحركين وذلك طبعا بعد أن هدأت العاصفة نسبيا. - فلنصل صلاة الغائب. - لكننا لا نعرف إن كانوا من المصلين أم لا. ونعتبرهم شهداء لأن الغريق يعتبر بمثابة الشهيد كما هو في الحديث. قال كيف تعتبرونهم شهداء وذلك الأشقر كان يغني طوال الوقت؟ قلت وهل الغناء محرم؟ وقد كان في بيت رسول الله ذات يوم غناء. قال ذلك غناء جارية لا يؤخذ عليها فالغناء حرام في الأصل، قال وعلى من تأخذ إذن؟ إن لحوم العلماء مسمومة فإني أراك والله قد كفرت. يعجبني شيخ الأندلس "العنقة" و"دحمان الحراشي" والشيخ "عبد الرحمان الجيلالي" وقليلا "شمس الدين"، فسرعان ما أوقف جدالنا قائد الفلك الأسمر صارخا بصوت قوي : - إن الفنانين لم يتسببوا في أية فتنة ولم يكونوا سبب انشقاق الناس. - أنا لا أعني الفنانين أنت تعرف قصدي جيدا. - جميل ما اقترحت ولكن إن وقفنا سنفقد التوازن وينقلب بنا القارب فمن الأحسن أن نبقى جالسين. سكتنا لمدة أظنها تجاوزت الدقيقة بكثير حيث كان الأخ الإسلامي يبدو منزعجا فكان يدير رأسه يمينا وشمالا وتارة إلى السماء ليبين لنا أنه غير مركز مع دقيقة صمتنا. حينها أيقظتنا أصوات طيور النورس التي كانت تحلق من على رؤوسنا وكان أحد الطيور قد نزل فوق قاربنا ولم نشعر به من قبل، رفعت رأسي قليلا و إذ بي أرى أفقا ليس كالمعتاد، أفقا ذات لون دكن مختلف عن لون البحر و السماء، أيقظت رفاقي من شدة الهلع صارخا: بدأنا نقترب شيئا فشيئا نحو الشاطئ الجبلي الصخري الذي كان يبدو مهجورا ما عدا طيور النورس التي كانت متواجدة بكثرة على مرتفعاته.